للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا ولابد من ذكر أبي حيان التوحيدي فقد عاصر من قدمناهم، وأصاب من مذاهبهم غير قليل على إيثاره للجاحظ واقتدائه به وتفضيله له. ولقد تنقصه الدكتور زكي مبارك بعض قدره من حيث الإنسانية لا البيان. ولعل هذا من باب تناكر الأشباه. وما أبعد التوحيدي مما وصمه به من الحقد والنكران والجحود فالرجل قد عانى مرارة الظلم، ولم يجد ناصرًا غير القلم. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. ويعجبني من التوحيدي أصالته. وغزارة علمه، وصدق لهجته، وافتتانه في مذاهب الفكر والمعنى واللفظ.

ولقد يكون أنفذ نظرًا من الجاحظ أحيانًا إلا أنه أثقل حلية وأعمد إلى التفخيم.

وله من كلة اعتذر بها إلى أحد أصدقائه، عما كان منه من إحراق كتبه (١):

«ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت أصناف العلم، سره وعلانيته. فأما ما كان سرًا، فلم أجد من يتحلى بحقيقته راغبًا. وأما ما كان علانية، فلم أصب من يحرص عليه طالبًا، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم. وعقد الرياسة بينهم. ولمد الجاه عندهم. فحرمت ذلك كله. ولا شك في حسن ما اختاره الله لي. وناطه بناصيتي. وربطه بأمري. وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي. ومما شحذ العزم على ذلك، ورفع الحجاب عنه. أني فقدت ولدًا نجيبًا، وصديقًا حبيبًا، وصاحبًا قريبًا، وتابعًا أديبًا. ورئيسًا منيبًا. فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها. ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها .. ويشمتون لسهوي وغلطي إذا تصفحوها. ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها. فإن قلت ولم تسمهم بسوء الظن؟ وتقرع جماعاتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات. وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة، فما صح لي


(١) معجم الأدباء- ١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>