من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء. وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة. وإلى بيع الدين والمروءة. وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق. وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم. ويطرح في قلب صاحبه الألم. وأحوال الزمان بادية لعينيك. بارزة بين مسائك وصباحك. وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك» إلى آخر ما قاله.
وأتم قراءة هذه الكلمة في موضعها إن شئت فإنك واجد فيها ما ذكرنا من عناية أبي حيان بزخرفة الشكل مع الذي عنده من الجاحظية. وقد كان من أقدر كتاب عصره وأقعدهم في باحة البيان، وربما دانى أبا العلاء وأبا الفرج الأصفهاني في منزلة التأليف، والله أعلم.
هذا وقد نشأت بعد القرن الرابع أجيال أرادوا أن يبلغوا من إحكام الشكل النثري فوق ما بلغه أسلافهم. فارتادوا مسالك من الزخرفة والتزيين يضاهئون بها ما غلب على القصيد من أصناف البديع. وأهم هؤلاء جميعًا الحريري صاحب المقامات والقاضي الفاضل صاحب الرسائل. أما الحريري، فقد عمد إلى الإشارة والتورية والتضمين والاقتباس وأحسبه دوم النظر في أبي العلاء. وله مقدرة بارعة على لي عبارات الأوائل عن وجهها، وإلى طريق ما كان فيه من القصص؛ وله احتفال شديد بمواترة السجع حتى يوشك أن يبلغ به إلى ضرب من الروي المتلئب؛ من ذلك قوله مثلاً (١): «نظمني وأخدانا لي ناد. لم يخب فيه مناد. ولا كبا قدح زناد، فينما نحن نتجاذب أطراف الأناشيد. ونتوارد طرف الأسانيد. إذ مر بنا شيخ عليه سمل. وفي
(١) المقامة الدينارية- هذا وقد وصم الدكتور شوقي ضيف الحريري بالتعقيد. وأحسبه قد حاف عليه. إذ أسلوب الحريري واضح إلا أن يقع فيه الغريب أو التورية وهذا مما يسهل كشفه. (ند عني موضع ذلك في ما كتب الدكتور شوقي ضيف).