وقد كان الخليل وأصحابه على ما في نظامهم من عسر وتعقيد وهفوات يدركون حقًا طبيعة النسب الموسيقية في أصل الأعاريض. وقد ذكر هذا المعنى صريحًا صاحب معجم الأدباء بمعرض حديثه عن الخليل إذ قال أن معرفته بالإيقاع هي التي أعانته على اختراع العروض (١). وقد ذكر قصة طريفة فحواها أن ابنًا للخليل دخل عليه وهو يقطع بيتًا من الشعر. فريع من منظره، وظن أنه أصابه مس من الجن ومضى ليخبر الناس بذلك. وذكر القفطي في إنباه الرواة: أن الخليل اهتدى إلى معرفة العروض من سماع النقر بالنحاس وأصوات الصفارين.
وفي نظام الخليل الذي تبعه، غير هذا الذي يروونه عنه، ما يدل دلالة واضحة على إدراكه لحقيقة النسب الزمانية والموسيقا الكامنة في الأعاريض. من ذلك مثلاً تقسيمه الطويل إلى أربعة أقسام في كل قسم منها فعولن تقابلها فعولن من القسم التالي ومفاعيلن تقابلها مفاعيلن. وفعل ذلك في المديد والبسيط وسائر البحور. وقد كان يسعه مثلاً أن يجعل الوافر. فعالن مفعلاتن فاعلونا أو فاعلاتن. ولكن تحريه النسب الزمنية ألجأه إلى «مفاعلتن مفاعلتن فعولن» في الضرب والعروض.
وأدل من هذا على إدراك الخليل لموسيقا العروض توهمه أبحرًا مثالية. وقد أخطأ في هذا التوهم من حيث المنهج التعليمي. كما قد أخطأ من حيث حاق الاستقراء. إذ لا معنى للنص على ما لا وجود له. ولكنه قد أصاب من حيث الإراغة إلى تبيين «النغمية» المحضة في الأعاريض. إذ قد كانت الدائرة في عرف ذلك الزمان، المولع بالقياس، رمزًا للكمال. وكان الخليل يعلم بذوقه وبإدراكه أن الأوزان ما هي إلا أشكال موسيقية، فالتمس لها نموذج الكمال في الدائرة، وحين استعصى عليه أن يضع كل بحر موجود في دائرة، توهم أصلاً دائريًا ينبع منه ذلك البحر، فنسبه إليه وبنى أنظمة الزحاف والعلل على ما اقتضاه هذا التوهم.