تصوره مجردًا غير مصحوب بتجربة الشاعر. ولنا أن نزعم أن محض القدرة على تصنيع الإيقاع كفيل بأن يهيئ هيكلاً، ذا وزن وقافية وأصناف من الزخارف النغمية. ولكن هذا الهيكل يكون باردًا خاليًا من الروح هامدًا حتى تصحبه وثبة البيان المنبعثة من حاق التجربة والرغبة في التعبير عنها. ووثبة البيان هذه هي ما كان يسميه القدماء «نفس الشاعر»، يعنون به الروح الذي ينتظم رنة نظمه من المطلع إلى المقطع. ويربط بين سائر أجزاء كلامه ويشيع فيها وحدة عميقة ذات جرس مبين ووحي نافذ.
وإذ بلغنا هذا المبلغ فإنا نجسر فنقول إن القصيدة العربية شكل وهيكل ذو وحدة تامة مصدرها إطار موسيقى السنخ ونفس حار ينبعث منه هذا الإطار الموسيقي حتى يكون مفتاح التعبير له، ووسيلة تأتيه إلى البيان.
ذلك بأن الشاعر العربي يُقبل على القول إقبالاً مباشرًا ولا يتكلف التماس الوسائط، وأعني بهذا أنه يروم إيصال تجربته إلى السامع حتى يشاركه السامع فيها مشاركة تامة، وحتى يصير كأنه هو نفسه قد اجتاز بمراحلها وأحس نشواتها وحرقاتها. وهذا المرام من الشاعر العربي يضطره إلى الصراحة الصلتة، وإلى أن يكافح نفس سامعه كفاحًا، حتى يتصل بها اتصالاً لا تشوبه شائبة من حجاب.
وإذ الصراحة الصلتة طريق عسر، فإن الشاعر العربي قد طلب لها التذليل بإيرادها في إطار من الوزن والقوافي والزخرفة النغمية، مصنوع من مادة الموسيقا والغناء. ذلك بأن الموسيقا والغناء مما يحركان النفوس ويسموان بها- يسموان بنفس الشاعر حتى يملك الشجاعة التي يقوى بها على الصراحة وعلى مكافحة نفوس السامعين، ويسموان بالسامعين حتى يتجردوا من حجب الذاتية إلى لقاء الشاعر في تجاربه.
والشاعر يُرزم في أعماق فؤاده بالموسيقا والنغم والحركات والسكنات قبل أن تُسمح نفسه إلى طريقه من الوزن والتقفية. وهذا الإرزام يكون أول مراحل التعبير،