وأول مراحل الوثبة البيانية. ومن طريقه ينتقل الشاعر من أرض الحجاب الذي يكون بينه وبين السامع المنتظر، إلى سموات من الإسفار، وتصحبه في انتقاله هذا نشوة نفسية تزداد عُنفًا كلما قارب البيان والإفصاح- هذه النشوة النفسية إنما هي ضرب من الجذب الروحي الذي يعتري الكهان والعرافين وأمثالهم من أهل الوجدان والتطلع إلى الملأ الأعلى.
والشاعر تعتريه هزة الجذب الروحي والنشوة الشعرية قبل أن تتفتح نفسه إلى موضوع بعينه. وقد تعتريه بعد أن يصدم نفسه حادث ما أو موضوع ما. فإذا اعترته قبل أن يكون قد استثاره موضوع يعرف أمره، فإن حاله النفسية تكون في ظلام من الانقباض أشبه شيء باليأس الخانق. على أنه وهو في هذه الحال، يدرك أنما هي إرهاص بالتعبير الذي لا بد أنه تاليها. ثم ينكشف عنه الظلام إما رويدًا إلى نور الإفصاح، وإما بفجاءة بعد عسر طويل. والغالب عليه في هذه الحالة أن يتخبط في التماس سبل البيان آخذًا بهذا الوزن وتلك القافية. وآنا بهذاك الوزن وهاتيك القافية، وربما نظم قصيدة كاملة ثم وجدها لا تحمل كبير معنى من نفسه فاطرحها، ولا يزال في نحو من هذا العناء حتى يفرج عنه.
والحق أن الشاعر في هذه الحالة إنما يكون قد ألمت به دوافع تجارب من الماضي طال اختباؤها حتى إذا حان أوان بروزها اجتذبته بعنفها فلم يجد بدا من الانقباض والضجر حتى يستذكرها إلى أن تشرق عليه واضحة جهيرة. هذا وإذا اعترت الشاعر حالة الجذب بعد حادث بعينه أو موضوع بعينه، فالغالب أن يكون اعتراؤها اياه يسير المس أول الأمر، ضعيف الإلمام، وربما وجد نفسه ينطق برنة الوزن والقافية أو بيت كامل أو عدة أبيات.
وقل أن يتصل له الإسماح بعد ذلك إلى أن يستوفي التجربة حقها. فإذا أعرض بعدما تأتي له أولاً، فإنه لابد أن تعاوده دوافع هذه التجربة ولو بعد أمد