للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طويل، وتصنع به نحوًا مما قدمنا نعته من قبل. وإن لم يُعرض، وأقبل على إيفاء التجربة حقها من التعبير، فإنه لابد أن تلم به حالة الضجر والقلق والظلام بعد انقطاع أوائل الأبيات أو أوائل التعبير عنه. ولا تزل هذه الحال تشتد به وهو يلتمس السبل إلى البيان حتى يجد مسالكه إليه. ومن هنا تتشابه حالة الجذب في مظهريها- أي حين تعر وبلا سابق حادث، وحين تعرو بأثر صدمة حادث بعينه أو موضوع. وعندي أن منشأ هذا التشابه من أن الشاعر في كلتا الحالتين يروم استخراج خبئ تجارب الماضي التي توحي إليه بالبيان. ولعل صدمة الحادث المُعين أو الموضوع المُعين إن هي إلا مجرد سبب مباشر لإنارة التجارب المودعات. وكثير، من حالات الجذب تقع في طرائق وسط بين مجرد الانبعاث من دون سابق حادث، أو مجرد الاستجابة إلى صدمة حادث أو موضوع، من ذلك مثلاً أن يتذكر الشاعر حادثًا مضى ثم يعتريه انقباض ما إلى أن يقول فيه بيتًا أو بيتين، ثم يُقطع به. ثم يراجعه القول بعد ذلك.

هذا وإن من تجارب الشاعر ما يندفع به إلى البيان اندفاعًا. ومنها ما يستتر إلى حين. ومنها ما يروم مخرجًا من سبيل الجهد والإعمال المتواصل. وأكثرها يختمر ويتعتق ويمكث دهورًا، ثم يحدث في نفس الشاعر ما سبق لي نعته من انقباض وإظلام ثم وضوح وانبلاج وإفصاح.

وهذا الوصف كله تقريبي لا أزعم أنه يصدق على أحوال الشعر جميعها. وأراني غير واجد بدًا من أن استثني ضروب القول المتعمد، وهو الذي يصطلح له المعاصرون قولهم شعر المناسبات. إذ الشاعر لا يصدر فيه عن دافع منبعث من الأعماق، ولكنما يستجيب إلى دعوة من الخارج يسخر لها ملكته.

على أنه حين يجمع أطراف ملكته ويتخير مفتاح التعبير في الوزن والقافية، ويُمد بنانات فكره إلى شتى قطوف المعاني، لا يخلو في كل ذلك من رجعة إلى ماضي تجاربه، ومن وثبة إلى قُنن من الخيال. وحينئذ يبطل عامل المناسبة، ويتلئب التعبير

<<  <  ج: ص:  >  >>