إلى آخر ما قاله. ولقد بالغ في التكلف. وإنما سقنا هذا الذي سقناه من تاتئيه لنضرب مثلاً على المجاراة التي يُراد بها إظهار البراعة، فإنها أكثر ما تؤول إلى نقيض ما يريده صاحبها.
هذا والنقائض في الشعر مما يدخل في باب المجاراة المتعمدة كالذي تجده في مناقضات جرير والفرزدق. غير أن هذين كانا يُجريان كلاهما الخطب وقد سبق لهما قبل المباراة أن حددا لأنفسهما مجال القول، فإذا استهل أحدهما بوزن ما وقافية ما كان ذلك كالمؤذن لصاحبه بأن مجال القول ههنا. فمتى جاراه صاحبه في وزنه وقافيته لم يكن بالمبعد كل الإبعاد عن طريقة الإسماح التي تنشأ من الانفعال والنفس العاطفي الحار. ولقد نرى عند جرير والفرزدق أنه ربما عمد أحدهما إلى مخالفة صاحبه في القافية لا في الوزن ليجعل ذلك أقرب إلى ما يهم هو بقوله، من ذلك ما فعله جرير في مجاراة الفرزدق إذ يقول:
إن الذي سمك السماء بني لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول
فإنه قد خفض الروي لينحو بالقول عن التفخيم إلى ما هو من طريقه ومذهبه من الوثب والاندفاع. تأمل في التدليل على هذا الذي نذهب إليه قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول
بيتًا زُرارة محتب بفنائه ... ومُجاشع وأبو الفوارس نهشل
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتخالنا جنا إذا ما نجهل
وتأمل بعده قول جرير:
أخزى الذي سمك السماء مجاشعا ... وبنى بناءك بالحضيض الأسفل