للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعمري إذ عمد الفرزدق إلى التفخيم والرفع، فلا شيء أبلغ في نقض ذلك من التحقير والخفض، وهذا ما عمد إليه جرير فأجاد.

وقد تجد أحد هذين الشاعرين ربما عدل عن وزن صاحبه ورويه متى بدا له أن يغير مجال القول نفسه، فأما تبعه صاحبه وأما خالفه، وجرير مما يروم جذب الفرزدق إلى الوافر والكامل والقوافي الذلل المنطلقات.

والفرزدق ما يجنح إلى الطويل وإلى ما يكون حزنًا من ضروب الروي.

شيطان الشعر:

هذا ونعود بك أيها القارئ الكريم إلى ما كنا فيه من نعت حال الشاعر حين يروم القول ويلتمس أسبابه في أصناف النغم الذي يصير من بعد مفتاحًا للتعبير وطريقة للبيان والإفصاح.

إن حال الجذب والانفعال التي ترافق تطلع الشاعر إلى اقتناص الوزن المناسب والقافية المؤاتية، هي التي تصبغ كلامه كله بصبغ واحد، وتشيع فيه روحًا واحدًا، وتجعله ذا نفس واحد تصل، وهي في رأينا سر الوحدة عند الشاعر العربي وجوهر الروح العاطفي في كلامه، تفيض أول أمرها نغمًا صرفًا، ثم تنسرب بعد ذلك في مسارب القول الناصع.

وقد بينا لك آنفًا أن طريقة الشاعر العربي في التعبير الجهير المباشر هي التي ألجأته إلى أن يصعد بنفسه إلى قمم من الانفعال حتى يقدر على التصريح غير هائب، لأن همه الاعتراف، وحتى يتقبل السامعون ذلك من صنيعه قبولاً حسنًا. وهو إذ يصعد بنفسه إلى علياء الانفعال، ويُهمهم في أعماقها بالنغم ملتمسًا للتعبير، يصير كما قدمنا إلى شيء من حالة الجذب والُهيام، يرتفع به عن مطلق الفردية البشرية إلى شيء من البطولة. ولذلك زعمت العرب أن الشاعر يصاحبه شيطان يلقي إليه، قال

<<  <  ج: ص:  >  >>