[الأمن العام للأمة]
الأثر الثاني: الأمن: يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢]، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! وأينا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بإن الظلم هنا هو الشرك، مذكراً إياهم بقول العبد الصالح لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣].
إذاً فالآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢]؛ هذا الأمن يبدأ من أمن الفرد وينتقل إلى أمن الأمة.
وهنا أقف وقفة مع هذه القضية؛ فإنها قضية مهمة جداً: كانت قريش تعيش حياة الرعب، فلما جاء أبرهة لهدم الكعبة فرت قريش إلى الجبال، وفتحت الطريق أمام عدوها، بغير عقيدة يفتحون الطريق لأعدائهم أن يغزوا بلدانهم! هربت قريش إلى الجبال وتركت الأمر، فمن الذي أنقذ البيت الحرام؟ أنقذه الله سبحانه وتعالى، وذلك بأن أرسل عليهم طيراً أبابيل {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:٤]، فكانت تلك الحادثة العظمى إرهاصاً لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تحولت مكة إلى بلد آمن؛ لأن جميع القبائل لما سمعوا بقصة ذلك الجيش العرمرم وكيف أن الله أهلكه وقتله شر قتلةٍ صار الواحد منهم يقول: هذا البيت له قدسيته، وهذه الطائفة وهذه القبيلة لأنها تحمي البيت لها مكانتها، فصارت القبائل لا تفكر أبداً بأن تغزو قريشاً ولا أن تنالهم بأذى، ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:١ - ٥].
فبعد هذه السورة قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:١ - ٤]، فتحولت قريش إلى أمان، نعمة من الله سبحانه وتعالى.
فانظر أيها الأخ المسلم! إلى الانتكاسة الفكرية كيف تكون، فحين كانت قريش في أمنها سعيدة وهي على شركها وعلى طغيانها، إذا بمحمد صلى الله عليه وسلم يبعثه الله ويرسله صادعاً بالحق يقول لقريش: قولوا لا إله إلا الله.
فماذا صنعت قريش؟ هل استجابت أو أبت؟ رفضت أن تستجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس غريباً هذا، وإنما الغريب أنها عللت عدم استجابتها بتعليل عجيب، فماذا قالوا؟ يقول الله تعالى عن قريش: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:٥٧] يعني: يا محمد! إن نؤمن بك تهجم علينا القبائل، ويعادوننا ويحاربوننا ويغزون بلادنا ونحن نعيش في أمان، فإن اتبعناك فإن الأمم الكافرة وغيرها تغزونا.
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:٥٧]، فماذا كان الجواب؟ {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:٥٧]، أي: كيف تقولون: (نتخطف من أرضنا) والله هو الذي أعطاكم الأمان؟! فمن أين جاءكم الأمان؟ من الله، وهذا رسول الله، فما جاء به لن يزيد أمانكم إلا أماناً.
وفي زمننا هذا يقول كثيرٌ من الناس: إذا تمسكنا بديننا، وإذا أعلنا الولاء والبراء، وإذا طبقنا شريعتنا؛ حاربتنا الأمم وغزونا وتسلط علينا الكفار وصاروا يحاربوننا ويقاتلوننا ويريدون أن يغزوا بلادنا إلخ.
وهي كلمة قريش {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:٥٧].
أيها الأخ المسلم! إن هذه دعوة غير صحيحة، فعقيدة التوحيد هي التي تغرس الأمان من الداخل للأمة كلها، وهي التي تغرس الأمان بإظهار وإبراز الرعب بالنسبة للعدو الخارج، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر)، والله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:٦٠]، عدو بعيد يرعب ما كان يفكر، وإنما خطر بباله أن يغزوكم فيرهب ويصاب بالرعب، وذلك حينما نؤمن بالله سبحانه وتعالى الإيمان الحق.
إذاً فهذه العقيدة تولد الأمان في المجتمع؛ لأنها تولد الأمان الداخلي وتنزل الرعب بالعدو الخارجي مهما كانت قوته، ومهما اختلف ما بيننا وبينه من ناحية الاستعداد والقوى المادية، إن الله لم يطلب منا أن نكون مثل أعدائنا في القوى المادية، لكن طلب منا أن نستعد وأن نأخذ ما استطعنا، لكن ما لم نستطعه (فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، وهل كانت انتصارات المسلمين لأن قواتهم مع أعدائهم كانت متكافئة؟ لا والله، فغالباً ما يكون المشركون أضعافاً مضاعفة بالنسبة للمؤمنين، وبالنسبة لعددهم ولخيلهم وسلاحهم وكل شيء عندهم.
إذاً فالتوحيد يغرس الأمان، وإذا أردنا الأمان فعلينا أن نرجع، وإذا أردنا أن يتبدل أمننا خوفاً فنحن بالخيار، فنغير فقط ونعدل، نغير ما نحن عليه، ونتوكل على غير الله، ونحارب العقيدة، ونحارب الدعاة ونضيق عليهم، إذا أردنا هذا فالطريق سهل، لكن إذا أردنا الأمان الحقيقي فعلينا أن نعتصم بالله الاعتصام الحق، وأن لا نحابي أحداً مهما كان، ومهما تكلم الغرب من شرقه وغربه واصماً عقيدتنا وإيماننا بالأصولية وبالتطرف وبالإرهاب، لا والله لا نلتفت إلى هذا، لا نلتفت إلى أي شيء من ذلك، وإنما نلتفت إلى ربنا سبحانه وتعالى فنراقبه في جميع أمورنا.