[أبو العالية العالم المحدث المجاهد القدوة في الابتلاء]
إمامنا أبو العالية الرياحي كان عالماً بالقرآن، وثقة إماماً حافظاً محدثاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معلماً ومربياً، وكان مع ذلك إماماً مجاهداً، حارب الروم في بلاد الشام كما حارب الفرس في بلاد ما وراء النهر، ويقال: إنه أول من رفع الأذان في تلك الديار بعد فتحها.
ولقد ابتلاه الله سبحانه وتعالى وامتحنه، وهكذا المؤمنون يبتلون ويمتحنون، يقول رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الرسل ابتلوا، ومحمد خاتمهم ابتلي، ومن جاء بعدهم واتبع سبيلهم فلابد أن يبتلى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٥].
أبو العالية ابتلي وامتحن رحمه الله تعالى، ولكن بلاءه كان في نفسه، أي: مرضاً في جسده.
في إحدى السنين استعد للمسير للجهاد في سبيل الله تعالى، ولما جهز عدته للجهاد وأخذ معه ما يحتاج إليه في هذه العدة والسفر الذي قد لا يرجع بعده إذا به يحس بآلام مبرحة في رجله، ولم يزل الألم يشتد به حتى أقعده عن الخروج، واشتد الألم به حتى جاءه الطبيب، فلما نظر إليه وفحصه قال له الطبيب: إنك مصاب بالآكلة، فقال له: رفيع بن مهران: وما الآكلة؟ قال: داء يأكل العضو الذي يحل به ثم ينتقل إلى ما فوقه حتى يأتي على الجسد كله.
وأظنه مرضاً معروفاً في عصرنا الحاضر، أجارنا الله وإياكم من كل سوء.
وأخبره الطبيب بأنه لابد من بتر ساقه، فأذن له وهو كاره لذلك، ولما حضر الطبيب ومعه مناشيره لنشر عظم ساقه وما يتبع ذلك، قال له الطبيب: أتريد أن نسقيك جرعة مخدر؛ لكي لا تشعر بالألم وهو شديد عليك؟ فقال أبو العالية رحمه الله تعالى: بل هناك ما هو خير من ذلك.
فقال: أحضروا لي قارئاً يتقن كتاب الله، واجعلوه يقرأ علي ما تيسر من آياته، فإذا رأيتموني قد احمر وجهي واتسعت حدقتاي وثبت نظري في السماء فافعلوا بي ما شئتم.
وقرأ القارئ القرآن، فلما وقع ما ذكر، ونظر وثبت بصره في السماء نفذوا أمره ونشروا ساقه وبتروها، فلما أفاق قال له الطبيب: كأنك لم تشعر بآلام الشق والبتر؟ فقال: لقد شغلني برد حب الله وحلاوة ما سمعته من كتاب الله عن حرارة المناشير.
ثم أخذ رجله بيده ونظر إليها.
وقال: إذا لقيت ربي يوم القيامة وسألني: هل مشيت بك منذ أربعين سنة إلى محرم أو مسست بك غير مباح؛ لأقولن: لا، وأنا صادق فيما أقول إن شاء الله.