للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الإيمان عماد التربية]

أيتها الأخت المسلمة! إن عماد التربية الإسلامية لدى البيت والأسرة هو الإيمان بالله تبارك وتعالى وباليوم الآخر، بحيث نعرف قدر هذه الدنيا، فلا تصبح هي الغاية، ولا تتحول مشاكلنا وعلاقاتنا كلها من أجل هذه الدنيا.

أيتها الأخت لقد عرف سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى قيمة هذه الدنيا، وسأتحدث باختصار عن قصة امرأة صالحة في عهد التابعين، هذه المرأة كانت عالمة فاضلة صالحة، جمع الله لها بين الجمال وبين العلم، وبين الدين والخوف من الله سبحانه وتعالى، وكان أبوها سيداً من سادات التابعين رحمهم الله تعالى.

وكان أبوها في المدينة النبوية، وكان ذلك في زمن بني أمية، وكان الخليفة عبد الملك بن مروان، وكان ولي عهده الوليد بن عبد الملك، وكان عبد الملك بن مروان يحكم الدنيا من أولها إلى آخرها، يحكم مشارق الأرض ومغاربها، حيث كان يحكم الشام والجزيرة والعراق وبلاد فارس وما وراء النهر ومصر والمغرب وأفريقيا.

والدها هو سعيد بن المسيب التابعي الجليل، وبينما هو في بيته أو مسجده إذا بأمير المدينة يأتي إليه، فدخل عليه، فلما سلم عليه قال له: يا سعيد، لقد جئتك بعز الدنيا من أولها إلى آخرها.

قال له: جئتني بعز الدنيا من أولها إلى آخرها؟! ماذا عندك؟! قال: أبشر يا سعيد، لقد جئتك بشيء يتمناه كل إنسان موجود الآن على ظهر الأرض.

قال له: وما الذي تقول؟! وما الذي جئت به؟! قال له: أبشر؛ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان يخطب بنتك لولده وولي عهده الوليد بن عبد الملك، وقد تولى الخلافة بعد ذلك.

هذا هو عز الدنيا، أن تنتقل بنتك لتكون زوجة لولي عهد المسلمين، وتكون هناك في قصر الخلافة التي لا تحكم بقعة محددة، وإنما تحكم مشارق الأرض ومغاربها التي بلغها الإسلام في ذلك الوقت، فماذا كان جواب سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى أمام هذا الإغراء؟! هل قال: أزوج بنتي من ابن أمير المؤمنين، وأعقد صداقات وعلاقات لأتحول إلى داعية وإلى وإلى وإلى؟! لم يقل هذا أيتها الأخت، أتدرين ما الذي قاله للأمير الذي جاء يخطب ابنته لولي عهد المسلمين في ذلك الوقت؟! قال له: اسمع أيها الأمير، وأجبني عن هذا

السؤال

إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) , وأنت تقول: جئتك بالدنيا بحذافيرها، فإذا زوجت بنتي من ابن أمير المؤمنين فاقسم لي من جناح البعوضة! وما الذي ستعطيني من جناح البعوضة إذا زوجت بنتي من ابن أمير المؤمنين؟! إنه كلام الحكماء العارفين بالله، وأبى أن يزوجها لابن أمير المؤمنين، ورفض الدنيا من أولها إلى آخرها؛ لأنها عنده لا تعدل جناح بعوضة، فإذا زوج بنته فما الذي سيقسم لها من جناح البعوضة؟! وأبى حتى إنه أوذي رحمه الله تعالى في سبيل ذلك.

ثم هذه البنت ممن زوّجها؟! كان عنده عدد من الطلاب، وبعد هذه القصة بقليل افتقد واحداً من طلابه، فسأل عنه، فلما جاءه بعد أيام قال له: لماذا غبت عنا؟ قال: توفيت زوجي، وأنا مشغول بنفسي، وليس عندي إلا أمي، أي: ليس عنده في البيت لا أولاد ولا شيء، وليس عنده إلا أمه.

فظن الطالب أن المدرس سيعينه بقليل من المال ليبحث له عن زوجة، وإذا به يفاجأ حين يقول له سعيد بن المسيب: هل أحدثت في هذا الأمر شيئاً -يعني: هل خطبت أو هل تريد أن تخطب-؟ قال: لا.

ومن يزوجني وليس عندي شيء؟ فقال له سعيد بن المسيب: أنا أزوجك ابنتي.

فصعق الرجل، يرفض زواجها من الوليد بن عبد الملك ويزوجني إياها أنا الفقير! وما أكمل دهشته وإذا بـ سعيد في الحال يحضر من طلابه الشهود ويزوجها إياه، ورجع الرجل لا يكاد يصدق إلى بيته، وصرخ في أعلى داره على جيرانه قائلاً: زوجني سعيد بن المسيب، يقول هذا الرجل: لقد زوجني ووالله ما في بيتي شيء.

فجاءت أمه فأخبرها الخبر، فلما أرخى الليل سدوله إذا بقارع يقرع عليه بابه بعد العشاء، فلما قرع عليه بابه قال: من الطارق؟ فقال له: سعيد، فكل إنسان اسمه سعيد خطر بباله إلا سعيد بن المسيب؛ فإنه منذ أربعين سنة لا يخرج من بيته إلا إلى المسجد، وما دخل دار أحد، وإذا به يفاجأ عندما فتح الباب بـ سعيد بن المسيب واقفاً، فصعق الرجل مرة أخرى، وظن أن الحال كما هي حالنا أحياناً نوافق على الرجل ذي الخلق والدين ونذهب إلى البيت فترفض الأم والأخوات وتنسف القضية، فالرجل قد يكون شجاعاً مع الناس وإذا رجع إلى البيت يتغير الموضوع، ويصير ليس له كلمة ولا أي شيء، فظن الرجل أن سعيداً لما ذهب إلى بيته قالوا له: كيف تصنع هذا! ترفضها من ابن أمير المؤمنين وتزوجها هذا الفقير؟! أي: على الأقل ابحث عن شاب غني ثري طيب طالب علم، فصعق الرجل مرة أخرى وظن أن سعيداً قد تغير له رأي، ويريد قبل أن تكتمل الفرحة أن يلغي الموضوع، فقال له وهو يتلعثم: يا شيخ! لو أرسلت إلي لأتيتك.

فقال له سعيد: أنت أحق أن يؤتى إليك، وأنت شاب ليس عندك أهل، وقلت: لا يصلح أن تبيت هذه الليلة بدون أهلك، وهذه هي زوجتك.

وإذا بها بجانبه، فدفعها إلى داخل الدار وأغلق الباب ورجع.

قال: فدخلت بها فرأيت امرأة عاقلة صالحة عالمة، ومكثت أياماً ما أتيت سعيد بن المسيب.

أي أنه شغل بنفسه؛ لأنه يقول: والله ما كان في داري شيء.

أي: لا أملك شيئاً.

يقول: وأتيته بعد أيام وحضرت الدرس، فانتظر حتى خرج جميع الطلاب وبقيت أنا وإياه، فقال لي: كيف حال ذلك الإنسان -يعني: بنته-؟ فقلت له: إنه بخير.

يقول: فقال لي سعيد بن المسيب العالم الفاضل: إن كان ذاك وإلا فعليك بالعصا! وهل تستحق هذه الفتاة العاقلة العصا؟! لكنها تربية الآباء، إنها تربية الأسرة.

فـ سعيد بن المسيب لا تظنوا أنه فعل شيئاً خطأً، لا والله، إنها معرفة حقيقية بقيمة الدنيا والآخرة، ولو رحلت بنته إلى دار الخلافة وخدمتها في تلك القصور الخادمات من جميع النواحي فلربما فتنت عن دينها، وكيف تكون حالتها إذا فتنت عن دينها، أما مع صاحبها هذا فلعلها تعيش بقية عمرها في ديانة وعبادة إلى أن تلقى الله، وما عند الله تبارك وتعالى خير وأبقى.

أيتها الأخت! هذا هو ميزان الدنيا والآخرة، لهذا فأنا أعجب أحياناً من أن بعض النساء هداهن الله تنافس وتشاقق على الدنيا، وأحياناً تثير مشكلة في البيت، وأحياناً تحسد بعض أخواتها، وأحياناً تغتابهن، والدنيا كلها لا تساوي شيئاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>