تعريف القضاء والقدر لغة واصطلاحاً
بعد هذه المقدمات الأربع ننتقل إلى المسألة الأولى من المسائل التي نحب أن نبينها، ألا وهي: مسألة تعريف القضاء والقدر، ولا نريد أن نخوض في المعاني اللغوية لمسألة معنى كلمة قضى، ومعنى كلمة قدر، وإنما أحب أن أشير هنا إلى كتاب ابن فارس الذي يسمى بمعجم مقاييس اللغة، وهو من أهم الكتب التي جمعت بين فقه اللغة وبين معنى اللغة، ومعاني الكلمات، فهو يحرص دائماً على بيان علاقة الحروف بالكلمة.
ومن هنا فإنني سأشير إشارة صغيرة إلى قول ابن فارس في معنى كلمة قضى حيث قال: القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، وهذا المعنى واضح الدلالة جداً في علاقته بالقضاء والقدر، وإن كان القضاء والقدر له معانٍ أخرى معروفة كثيرة: فيأتي بمعنى الأمر قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣] أي: أمر.
ويأتي بمعنى الحكم كما في قوله تعالى: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:٧٢] في قصة سحرة فرعون، أي: احكم ما أنت حاكم، ما أنت تريد.
ويأتي بمعنى الفراغ كما قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:١٢] أي: أنه سبحانه وتعالى فرغ من خلقهن وتسويتهن.
ويأتي بمعنى الأداء تقول: قضى فلان صلاته، أي: أداها يقول سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:٢٠٠] أي: إذا أديتم مناسككم.
ويأتي بمعنى الإعلام كما في قول الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء:٤]، أي: أوحينا وأخبرنا وأعلمنا إلى آخر المعاني التي هي معروفة في اللغة العربية.
ولكن الذي يهمنا في هذا أن مجمل هذه المعاني ذات ارتباط بالمعنى الأساسي الذي نريده، وهو أن معنى كلمة القضاء مرتبطة بالقدر، فهي دالة على أن الله سبحانه وتعالى قضى هذا الأمر وفرغ منه، ودالة على أن الله أحكم هذا الأمر ونفذه، ودالة على أن الله سبحانه وتعالى قد قدر أن يجري قضاءه كما قدره سبحانه وتعالى.
وكذلك كلمة القدر يقول فيها ابن فارس في كتابه المهم معجم مقاييس اللغة: القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء ونهايته.
ومن هنا فإن القدر يطلق على الحكم والقضاء كما في حديث الاستخارة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخره يقول الداعي: (فاقدره لي ويسره لي).
وحينما يحرك الدال: (قَدَر) يكون بمعنى الطاقة، كما قال تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:٢٣٦].
ويأتي القدر بمعنى التضييق كما في قول الله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:٨٧]، في قصة يونس، أي: ظن أن لن نضيق عليه.
وأيضاً يأتي من التقدير كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فإن غم عليكم فاقدروا له)، ويوضحه الرواية الأخرى: (فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) أي: قدروا له عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً، وهذا يتعلق بمسألة فقهية معروفة.
إذاً: إذا نظرنا إلى المعاني اللغوية للقضاء والمعاني اللغوية للقدر نجد أن لها علاقة واضحة بمعنى القضاء والقدر الذي نحن بصدده.
إذاً: إذا كان هذا معناهما لغة فما معناهما اصطلاحاً؟ لم يرد تعريف مستقل دقيق لهذا، وإنما جمع العلماء رحمهم الله تعالى ما يتعلق بالأشياء التي يجب الإيمان بها في باب القضاء والقدر، وبينوا من خلالها معنى القضاء والقدر.
ومن هنا فيمكن أن نقول: إن المقصود بالقضاء والقدر: هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه وتعالى بأنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك، ومشيئته له، ثم وقوع هذه الأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته وخلقه لها سبحانه وتعالى.
وهذا التعريف يشمل عدة مسائل: الأولى: الإيمان بعلم الله الأزلي التام بأن الله سبحانه وتعالى علم في الأزل ما الخلق فاعلون.
الثانية: الإيمان بأن الله تبارك وتعالى كتب -كما ورد في النصوص- في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة -وهو اللوح المحفوظ- ما هو كائن إلى يوم القيامة.
الثالثة: الإيمان بأن الله تعالى له المشيئة النافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
الرابعة: الإيمان أنه لابد أن تقع هذه الأشياء على وفق ما علمها وكتبها وأرادها، والإيمان بأن الله تعالى خالقها، أي: أن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء.
إذاً: تترتب هذه الأمور على هذا الترتيب: علم أزلي، ثم كتابة لهذا الأمر، ثم مشيئة إلهية لابد أن تنفذ، ثم وقوع المقدور، وأن الله تعالى هو خالقهم، فكل ما يقع في هذا الكون فهو مخلوق لله كما قال تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦]، سبحانه وتعالى، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان علاقة هذه القضية بإرادة الإنسان وقدرته.