[القوتان اللتان بهما يصل العبد إلى مقصوده في الآخرة]
أيها الأخ في الله! ما علاقة العلم بالعمل؟ وأيهما أشد احتياجاً إلى الآخر؟ لما كان العباد قد خلقوا للعبادة، وكلهم سائر إلى ربه تعالى فملاقيه للحساب والجزاء كان السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصير إلى مقصوده إلا بقوتين: إحداهما: قوة علمية.
والثانية: قوة عملية.
فبالقوة الأولى العلمية ينار له الطريق، ويبصر منازله، فهو يسير ومعه هذا النور القوي نور العلم، فيفيده في ناحيتين في أثناء سيره، لا بد منهما لكل سائر: إحداهما: معرفة الطريق الصحيح والأقرب، فهو بهذا النور يعرف طريقه، ولا يتيه يميناً ولا شمالاً، وإنما هو سير على الجادة الموصلة إلى الله تعالى، وهو في سيره وإن طال الطريق إلا أنه يصبر؛ لأنه واثق من مسيره بهذا النور، ليس عنده تردد، وإنما هو الجزم والعزم والتوكل على الله تبارك وتعالى.
أما من لم يوفق إلى العلم الصحيح وإلى العلم المؤصل المبني على أدلة الكتاب والسنة فتجده في سيره متخبطاً، كلما أبصر طريقاً في سيره يميناً أو شمالاً سلكه، فهو تائه بين هذه الطرق وأنى له الوصول؟! الناحية الثانية التي يستفيد منها من نور الله قلبه بالعلم الصحيح: تجنب أسباب الهلاك ومواضع العطب، فهو بهذا النور مبصر لطريقه، عارف بما فيه من الأحجار والشوك والحفر ونحو ذلك، فهو يتجنبها ويحذرها، فهو حذر من البدع والمعاصي، ومواضع فتن القلوب التي تعرض لها، ووساوس شياطين الجن والإنس التي يحاول أصحابها صرف السائر إلى الله تعالى عن طريقه.
فبالقوة العلمية وبنور العلم الصحيح يعرف الإنسان ويدرك أعلام الطريق الموصلة إلى الله، فيسلكها ويسير عليها، ويدرك مواضع العطب والهلكة فيتجنبها ويحذرها، هذه هي القوة العلمية.
أما القوة العملية فهي حقيقة السير إلى الله تعالى في العمل والعبادة والطاعة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل خير يقرب إلى الله تبارك وتعالى.
والإنسان إذا عرف الطريق والسفر ومنتهاه وذلك من خلال ماضي المعرفة والعلم قد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر، وهو أن يشمر عن ساعد الجد مسافراً في الطريق إلى الله تعالى، قاطعاً له منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع المرحلة الأخرى، واستشعر القرب من المنزل فهان عليه مشقة السفر.
وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمةً، فهو يقول: يا نفس! أبشري، فقد قرب المنزل، ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرت وواصلت المسير وصلت حميدة منصورة جذلة، وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درجات تلك الساعة، فالله الله لا تنقطعي في المفازة، فهو -والله- الهلاك والعطب لو كنت تعلمين.
فإن استصعبت عليه فليذكرها ما أمامهما من أحبابها، وما لديهم من الإكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها، وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء، وليجعل حديث الأحبة حاديها وسائقها، ونيل معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها، ولا يوحشه انفراده في طريق سفره، ولا يغتر بكثرة المنقطعين، وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم، بل هي من عوارض الطريق، فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج له المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم.
فيا قرة عينه إذ ذاك! ويا فرحته إذ يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ} [يس:٢٦ - ٢٧]! ولا يستوحش مما يجده من كثافة الطبع ودأب النفس وبطء سيرها، وكلما أدمن على السير وواظب عليه غدواً ورواحاً وسحراً قرب من الدار، وتلطفت تلك الكثافة، وزالت تلك الخبائث والأدران، فظهرت عليه همة المسافرين وسيماهم، فتبدلت وحشته أنساً، وكثافته لطافة، ودرنه طهارة.
أيها الأخ في الله! هكذا يصور ابن القيم رحمه الله تعالى الطريق، ويصور القوة العملية التي يسير عليها السائر إلى ربه تبارك وتعالى، وهذه القوة العملية هي التي عبر عنها السلف الصالح رحمهم الله تعالى بالعمل، وهي الغاية التي من أجلها يتعلم الإنسان العلم، فهو علم وعمل حتى يلقى العبد ربه تعالى.
أما الدنيا فدار عمل لا راحة فيها، وإنما الراحة الحقيقية راحة الآخرة، قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة.
نعم أيها الأخ في الله، عند أول قدم يضعها في الجنة تكون الراحة، أما الدنيا فهي دار كد، ودار عمل، ودار أحزان، إن أفرحت أياماً أحزنت أياماً أخرى، وهكذا دواليك.