[وجوب تدبر كلام الله وتطبيقه والخشوع عند تلاوته]
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:١]، امتن علينا بأن أنزل علينا أفضل كتبه، وأرسل إلينا أفضل رسله وخاتمهم، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله الذي نزل عليه القرآن في غار حراء أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١ - ٥]، فتلقى وحي الله وبلغه إلى أصحابه، وجاهد في ذلك أعظم جهاد، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى أصحابه الكرام البررة الذين حلموا هذا القرآن فحفظوه، ووعوه، وعملوا به، وبلغوه إلى الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، فرضي الله عنهم جميعاً، وعن التابعين لهم وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة في الله! نحن على مقربة من قدوم ضيف عزيز جداً، ضيف طالما ترقبه المؤمنون الصادقون تبعاً للسلف الصالح رحمهم الله تعالى؛ فإنهم كانوا قبل قدومه بشهور يتحرونه، ويدعون الله سبحانه وتعالى أن يبلغهم هذا الشهر العظيم شهر القرآن، شهر قيام الليل والتراويح، شهر الصيام، شهر تتلى فيه آيات الله في كل مكان في المساجد والبيوت وفي كل مكان، شهر القرآن والصيام والصبر، ولو لم يكن في هذا الشهر الكريم إلا أن ربنا تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وعدنا بالمغفرة في هذا الشهر، وذلك من خلال ثلاثة أحاديث: أولها: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
ثانيها: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
ثالثها: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه يا رب ممن صامه وقامه على الوجه الذي يرضيك عنا.
أيها الإخوة! وماذا نقول عن كلام رب الأرض والسموات؟ وماذا نقول ونحن نتحدث هذه الليلة عن القرآن العظيم؟ إن القرآن العظيم تكفل الله بحفظه؛ فهو محفوظ إلى أن يرفع في آخر الزمان، كما ورد بذلك بعض الآثار، فالقرآن العظيم هو كلام الله سبحانه وتعالى وليس كلام بشر، سواء كان ملكاً، أو رئيساً، أو غنياً، أو شريفاً، أو مشهوراً، أو أديباً، أو غير ذلك.
ومن هنا أيها الإخوة! فإننا لن نستطيع أن نقف معه الوقفة التي تتناسب مع قدره وعظمته، ولكن حسبنا الذكرى ببعض المسائل، والذكرى تنفع المؤمنين.
أيها الإخوة في الله! أقول في البداية: لقد وقفت مع عدد من الآيات فرأيت أن من تأملها وجد فيها عجباً، وهي آيات بينات واضحات، ولكنها تحتاج من القلوب المؤمنة إلى وقفات: يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:١٧]، في أربع آيات في سورة واحدة.
وقال عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:١٧]، وأقول: إن من أعظم نعم الله أن هذا القرآن يتلوه الجميع، يتلوه العالم والمتعلم والعامي والمرأة والرجل، كل منهم إذا تعلم مبادئ القراءة والكتابة تلاه؛ بل قد يتلوه ولو لم يتعلم مبادئ القراءة والكتابة.
وكم من عامي لا يقرأ ولا يكتب يحفظ القرآن كاملاً، أليس هذا دليلاً على هذا التيسير العظيم؟! الآية الثانية: يقول تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:١٦]، ألم يأن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم للقرآن؟ كلا! والله! لقد آن لقلب كل مؤمن أن يخشع للقرآن ولقراءة القرآن.
الآية الثالثة: يقول الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:٢١]، أي: لو أنزل الله هذا القرآن على جبل صخر أصم لا تهده إلا الآلات الضخمة لرأيت هذا الجبل خاشعاً متصدعاً متشققاً منهداً من خشية الله، فكيف لا تخشع قلوبنا وهي من لحم ودم؟! الآية الرابعة: يقول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٣]، تقشعر قلوب المؤمنين لأن هذا القرآن مثاني يشبه بعضه بعضاً في البلاغة والإعجاز والفضل والعظمة، وإن كانت بعض الآيات أفضل من بعض، لكن كله فضيل؛ لأنه كلام رب العالمين.
الآية الخامسة: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:٥٧ - ٥٨].
فإذا رأيت الناس يتنافسون على جمع الدنيا فأقبل على قراءة القرآن؛ فإنك تجمع من الحسنات والفضل العظيم ما ترتاح له نفسك يوم تقف بين يدي ربك يوم القيامة.