أول هذه المقدمات: أنه اشتهر عند كثير من أهل الكلام وممن ينتسب إلى الإسلام من أهل الفلسفة وغيرهم تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فيقولون: إن هذا أصل من أصول الدين، وهذا فرع من فروع الدين، فيجعلون مسائل الاعتقاد من أصول الدين، ومسائل الأحكام الشرعية الفرعية من فروع الدين، ثم يرتبون على هذا عدة ترتيبات، فمثلاً يقولون: إن الخطأ في مسائل الأصول قد يوصل صاحبه إلى الكفر، لكن الخطأ في مسائل الفروع، لا يوصله إلى الكفر وإنما يبقى خطأ اجتهادياً.
أيضاً من ناحية الإثبات: فإنهم قد يثبتون الفروع بأخبار الآحاد، ولكن الأصول يرفضون أن يثبتوها بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقتصرون في إثباتها على المتواتر، وعلى أدلة العقول كما هو منهجهم.
وهؤلاء الذين قسموا الدين إلى أصول وفروع خلطوا خلطاً عجيباً في هذا الباب، ولاشك أن تقسيمهم حادث لم يكن موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا على عهد القرون المفضلة من السلف رحمهم الله تعالى، فمثلاً: يجعلون كل قضية خبرية تتعلق بالإيمان بالله أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو باليوم الآخر أو نحو ذلك من أصول الدين، وكل قضية تتعلق بأحكام الفروع ولو كانت الصلاة أو الزكاة أو الحج أو الصيام يجعلونها من فروع الدين، وجعلوا الأمور الأولى أموراً مهمة، والأمور الأخرى أموراً فرعية ليست ذات أهمية، والحق أن هذا التقسيم خطأ كبير جداً؛ لأن الدين الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل وقال:(هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) شامل للإسلام بأركانه الخمسة، وشامل للإيمان بأركانه الستة، كما أنه أيضاً شامل للإحسان، وهو المرتبة العليا من الدين:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
ومن ثم: فإن مسألة الصلاة يقولون: إنها من فروع الدين، ولكنها بلا شك من أصول الدين، بمعنى أن الإقرار بهذه الصلاة واعتراف المؤمن بها أصل من أصول الدين، ومن جحدها فهو كافر بإجماع العلماء.
وكذلك الزكاة، وأيضاً تحريم الربا، وتحريم شرب الخمر، وتحريم الزنا وغير ذلك، فهذه كلها أمور معلومة من الدين بالضرورة، فهي من أصوله، فمن جاء ليجحدها ويقول: إن الله لم يحرم الربا، أو إن الله لم يحرم الخمر، أو إن الله لم يوجب الصلاة أو الزكاة فهو خارج عن دائرة الإسلام، فكيف يأتي قائل بعد ذلك ليقول: إن هذه من فروع الدين وليست من أصوله؟! فحينما نأتي ونقول: منهج السلف رحمهم الله تعالى في الاعتقاد لا يعني قضايا الاعتقاد التي يتحدث عنها بعض الناس، وإنما يشمل هذا أصول الدين التي هي أصول، ومن ثم: فإن التقسيم الصحيح لهذه المسائل إنما هو بتقسيمها إلى قسمين: خبر وطلب.
القسم الأول: خبر إما عن الله أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو خبر عن اليوم الآخر أو غيره من الأخبار، فهذه كلها تسمى أخباراً.
القسم الثاني: طلب، وهذا الطلب هو الذي فيه الأوامر والنواهي، ما أمرنا الله سبحانه وتعالى به من الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، وما نهانا الله سبحانه وتعالى عنه من أكل الربا والخمر وغير ذلك، وهذا هو التقسيم المناسب والصحيح لهذا الدين، وكل من الخبر والطلب فيه ما هو أصول، وفيه ما هو فروع، وهذه هي القضية الأولى التي وددنا أن نشير إليها هنا.