[عزة المؤمنين بالإيمان، وبيان معنى الإيمان الذي تكون به العزة]
إن العزة لا تكون إلا بالله، العزة لا تكون إلا بالصراط المستقيم الذي بينه لنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
ومن ثمَّ فإنني أحب هنا أن أذكر شيئاً عن هذا الإيمان الذي به عزة المؤمنين، ما هو هذا الإيمان؟ لقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بياناً واضحاً، ولكني أشير إلى إشارات وأمور مجملة: الأمر الأول: أن نسير على هذا الإيمان على وفق منهج أهل السنة والجماعة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، إنهم السلف، وهم أهل الحديث، وهم أهل السنة والجماعة الذين صاروا على ذلك الخط في الاعتقاد في جميع جوانبه، فما غيروا وما بدلوا، بل ابتعدوا عن البدع، وعن علم الكلام، وعن كل ما يعكر صفو هذا الإيمان من أمور دخيلة على المسلمين، سواءٌ أكانت هذه الأمور أموراً فلسفية، أم أموراً كلامية، أم غيرها.
الأمر الثاني: أن الإيمان الذي به عزة المسلمين هو الإيمان الذي يولد عملاً، فبعض الناس يقول لك: أنا مؤمن.
وإذا جئت تكلمه في أمر من أمور الإيمان فتأمره بأمر أو تنهاه عن منكر قال لك: يا أخي! هذه أمور بسيطة، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره.
فنقول: نعم.
التقوى في القلب، ولو كانت التقوى في قلبك لما ارتكبت المنكر ولأتمرت بالمعروف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر القلب الذي به يغرس الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، فلو كان الإيمان موجوداً على الوجه الصحيح لما بقي كامناً، وإنما يتحول إلى عمل، يتحول إلى الصلاة الخاشعة، وإلى الصيام، وتأدية الزكاة، والبعد عما حرم الله من الزنا والربا والغش والغيبة والنميمة وغير ذلك من المنكرات، هذا هو الإيمان.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم إذا انغرس في قلبه هذا الإيمان لم يرجع لينام في بيته، ولم يقل: أنا أقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وانتهى الأمر.
لا، وإنما كان هذا الإيمان -لأنه إيمان صحيح- يحول الواحد الفرد حركة دائبة للعمل والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يأتي ليدعو أقرب الناس إليه.
ونحن نعرف ذلك الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه الذي دخل في الإسلام، فلما آمن واستقر الإيمان في قلبه رجع إلى قومه -وكانوا على الشرك-، فلما اقبلوا عليه فرحين مستبشرين بمقدمه أقبل معهم عليه أبوه، فلما أقبل عليه ليسلم عليه قال: إليك عني، فلست مني ولست منك.
قال: وما ذاك؟ قال: لقد آمنت بالله ورسوله.
قال: أنا معك.
فجاءت زوجته مقبلة عليه فرحة بمقدمه، فقال: إليكِ عني، فلستِ مني ولست منكِ، لقد فصل بيني وبينك الإسلام.
فقالت: وما ذاك؟ قال: لقد أسلمت، ودخلت في دين محمد.
قالت: ديني دينك.
وجاءت أمه، وجاء أقرباؤه ففاصلهم حتى أسلموا.
إنه الإيمان الذي يولد عملاً، وليس إيمان النفاق، ولا إيمان المجاملات الباردة في دين الله.
إنه الإيمان الذي يحرك الغيرة في قلب العبد المؤمن إذا رأى حرمات الله تنتهك، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من صفات المؤمنين الغيرة، وأن الله يغار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يغار، وقال عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (لقد دخلت الجنة فرأيت قصراً لك يا عمر، فجئت لأدخله فرأيت في الباب جارية، فلما رأيتها تذكرت غيرتك يا عمر! فلم أدخله.
فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: أعليك أغار يا رسول الله؟!).
إنه الإيمان الذي يجعل الإنسان لا يسير في هذه الحياة وكأنه أبله لا يفقه من أموره شيئاً، بل ينظر ماذا يخطط له الأعداء ويتدبر، فينظر ماذا يريد الأعداء في حربهم للمسلمين فيقف في وجوههم، وينظر ماذا يريد المنافقون وأذنابهم فيقف ضد مخططهم، هذا هو الإيمان الذي به العزة والرفعة والمكانة للأمة الإسلامية.
ثالثاً: الإيمان الذي نريده هو الإيمان القائم على العبادة الخالصة لله الواحد القهار الملك الجبار الذي بيده ملكوت كل شيء، فهو الذي يحيى ويميت، وهو الذي يذل ويعز، وهو الذي بيده الأمر كله، وحياتنا وأرزاقنا وآجالنا وأمراضنا كلها بيد الله سبحانه وتعالى، فإذا كانت هذه الأمور بيد الله عز وجل فهل يتوجه العبد بخوف أو محبة أو توكل على غير الواحد القهار؟
الجواب
لا.
فإنه لا يتوجه إلى غير الله عز وجل من امتلأ قلبه إخلاصاً لله سبحانه وتعالى.
فالإيمان هو الإيمان الذي يجعل العبد يخلص في جميع أمور العبادة لله وحده لا شريك له.
والمحبة العبادية لا تكون إلا خالصة لله سبحانه وتعالى، والخوف والرجاء لا يكون إلا من الله.
والاستعانة والاستغاثة والتوسل لا تكون إلا بالله.
والذبح والنذر والتوكل وغير ذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، فلا الأولياء ينفعون، ولا أصحاب القبور ينفعون، ولا السحرة والكهان وغيرهم ينفعون، وإنما النفع والضر بيد الواحد القهار سبحانه وتعالى، فليخلص العبد عبادته لله وحده لا شريك له.
الأمر الرابع: الإيمان الذي به العزة هو الذي يجد العبد طعمه وحلاوته في أموره وحياته كلها، فما هو هذا الإيمان الذي يجد الإنسان طعمه؟ هذا الإيمان يقول عنه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وهذه هي الأولى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده -وفي رواية: من ولده ووالده- والناس أجمعين).
فهل نجد -أيها الأخ الحبيب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الحب أكثر مما نجده لأنفسنا وأولادنا؟! وهل نحن نحب المحبوب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بالهداية بسببه، فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم كلاماً خضعنا، وإذا أمر أمراً فعلنا، وإذا نهى عن أمرٍ اجتنباه، أم أننا نسمع القائل يقول: قال رسول الله.
أمر رسول الله.
نهى رسول الله ونحن عن ذلك معرضون؟! هل هذه محبة؟ الجواب: لا، ليست دلالة على المحبة.
الأمر الثاني الذي يجد به العبد حلاوة الإيمان قال عنه صلى الله عليه وسلم: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، وانظر اليوم إلى موازين البشر، هل هي بميزان الحب في الله والبغض في الله؟ الجواب: لا.
بل الحب والبغض أصبح لأجل الدنيا ولأجل القرابة فقط ولأجل المكانة والمنصب ولأجل ما ترجوه من هذا الشخص، هذا هو الميزان الذي عندنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يبين أن حلاوة الإيمان تجدها بأن تحب المرء لا تحبه إلا لله، وأما علامة أن حبك لهذا العبد هو محبة في الله فعلامة ذلك أن لا يتغير هذا الحب إن أحسن إليك أو جفاك، فإذا أحسن إليك فأنت على ما كنت عليه من محبته، وإن جفاك فأنت على ما كنت عليه من محبتك له في الله، هذا هو الميزان.
أما الأمر الثالث الذي به توجد حلاوة الإيمان فهو كراهة الكفر، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)، وهذه -والله- ثلاث علامات يجد العبد بهن حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الناس في الله، وأن يكره الكفر وأن يعود فيه كما يكره أن يقذف في نار جهنم.
وقد كان الصحابة من شدة إيمانهم بالله سبحانه وتعالى أنهم كانوا ينظرون إلى الدنيا على أنها دار معبر، ولذلك كانوا يتدارسون أشراط الساعة، ويرون أن أشراط الساعة قادمة لابد منها، فكانوا يتدارسون الساعة والقيامة والبعث والحساب والجزاء؛ لأنها حقائق من حقائق الإيمان لابد أن تقع، وهذه المعرفة بهذه الأمور تؤدي بالإنسان إلى النشاط والعمل، ولا تؤدي به إلى الكسل كما يفعل بعض الناس.
وقد جاء أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أعددت لها -أي: ما الذي أعددته للساعة-؟ فقال هذا الصحابي: ما أعددت لها من كثير عمل إلا أنني أحب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -مبشراً له ومبشراً لأصحابه-: أنت مع من أحببت)، فمن أحب الله والرسول صلى الله عليه وسلم فهو في الجنة مع رسول الله، وهو في الجنة يرى الله؛ فالمؤمنون يرون الله ربهم تبارك وتعالى في الجنة، وما وجد المؤمنون في الجنة ألذ ولا أطيب -وكل ما في الجنة طيب- من رؤيتهم لربهم تبارك وتعالى، نسأل الله الكريم العظيم الجليل من فضله أن لا يحرمنا من النظر إلى وجه الله الكريم في جنات عدن.