وبذلك أيضاً تبطل نظرية أخرى عند كثير من دارسي الأديان الذين يزعمون أن الإنسان في معرفته بالله تطور، يقولون: إن الإنسان أول ما نشأ على هذه الأرض -بصرف النظر عن كيفية نشأته- نشأ بدائياً لا يعرف شيئاً -أي: جاهلاً- ثم بدأ يتحرك في هذه الأرض، فنظر فبدأت تنشأ عنده عقيدة، رأى جبلاً ضخماً أمامه فخافه فعبده، رأى شمساً أو قمراً فنظر إلى عظمته وتكرره عليه فخافه وعبده، ثم لم يزل به هذا، أي أنه ابتداء قام على الشرك بالله وعبادة غير الله، ثم لم يزل به عقله ونموه يتطور حتى انتهى به إلى تكامل العقل البشري، وذلك من خلال العقيدة الصحيحة التي هي عقيدة التوحيد.
هذا المنهاج خاطئ من أوله إلى آخره، فالقول بتطور الإنسان كالقول بتطور الأديان أو تطور الدين عند الإنسان، فهنا قضيتان: القضية الأولى: أن الإنسان كائن متميز.
القضية الثانية: أن الإنسان أول ما نشأ على هذه الأرض نشأ عالماً عارفاً عابداً لله على وجه الحقيقة، أي أن عقيدته كانت على التوحيد الخالص.
ومن ثم نجد أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر الملائكة بقوله:{إني جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:٣٠].
قال تعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة:٣١] أي: علم آدم أسماء كل شيء.
ثم اختبر الملائكة، فلما لم يكن للملائكة علم إلا ما علمهم الله ما عرفوا هذه الأسماء، فلما أنبأهم آدم بهذه الأسماء تبين فضل آدم عليه الصلاة والسلام.
وهذه القضية التي تتعلق بنشأة اللغات أيضاً، وهي قضية عقدية فكرية طالما تكلم عنها الباحثون وخاصةً رواد الدنيوية وغيرها، هذه القضية المتعلقة باللغات نجدها قضية إيمانية موجودة في القرآن العظيم أن الله:{عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ}[البقرة:٣١] ومن ثم فلو فكرنا قليلاً فمن أعظم نعم الله علينا في هذه الحياة تعليم الأسماء واللغات، أرأيت لو لم يكن في نظام الحياة البشرية هذه الأسماء كيف ستكون حياتنا؟ لن نستطيع أن نتفاهم إلا بحقائق الأشياء، فحين أخبرك بقولي: فلان صنع كذا لا يمكن أن يفهم عني من هو فلان هذا إلا إذا أتيت لك به، وعندما أقول: فعل كذا لا بد أن أفعل نفس الفعل حتى يفهم الذي أمامي، وعندما أقول: اشتريت سيارة لا يمكن أن يفهم مني معنى سيارة إلا حين آتي بنفس السيارة، وعندما أقول: صنعت خبزاً لا يفقه معنى الخبز إلا لما آتي بالخبز، فمن الله على عباده بتعليم اللغات، هذا التعليم اللغوي منذ آدم عليه الصلاة والسلام به تستقيم حياة الناس، ولو لم يكن كذلك لأصبحت حياة الناس في غاية التعقيد والعناد، ولهذا كان تعليم اللغات يفتح آفاقاً من العلم والمعرفة في جميع جوانبها، سواء أكانت معرفةً بالله وأسمائه وصفاته وخلق السماوات ونشأة الكون وغير ذلك، أم فيما يتعلق برسل الله وتاريخهم، أم فيما يتعلق بالتاريخ عموماً، أم فيما يتعلق بالحياة كلها ماديةً وغير مادية.
إذاً هنا قضية أخرى، وهي أن الله سبحانه وتعالى لما أهبط آدم إلى الجنة مكث وذريته -كما في أثر ابن عباس - عشرة قرون على التوحيد، ثم نشأ فيهم الشرك، كيف نشأ الشرك فيهم؟ نشأ عن طريق الصور وتعظيم غير الله سبحانه وتعالى، ولا نطيل في ذكر قصة نشأة هذا الشرك، لكن كانت كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح الذين أرسل فيهم نوح، فهو أول الرسل، أما الأمم من قبله فقد كانوا على التوحيد، فنوح أرسل في قومه لما نشأ فيهم الشرك الأكبر الذي هو عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا فإن رسالة نوح عليه الصلاة والسلام هي بداية الرسالات التي تعود بالأمة كلها إلى مسارها الصحيح من خلال العقيدة الصافية عبادة الله وحده لا شريك له.