بعد آيات الحج في سورة الحج، وبيان مناسكه وفضله، وتعظيم شعائر الله تعالى، يقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[الحج:٣٨ - ٤٠].
وهنا يلتقي الحج مرة أخرى بالجهاد في سبيل الله تعالى، فهو مدرسة من مدارس الجهاد، والجهاد ذروة سنام الإسلام، (وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا) كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، إن الحج يذكر هذه الأمة بالجهاد ويعلمها إياه من خلال عدد من الأمور: أولها: مشقة السفر إلى مكة، فهو شبيه بسفر المجاهدين في سبيل الله تعالى، وإن الرجل ليودع أهله وهو لا يدري هل يرجع إليهم أم لا، خاصة إذا كان من بلاد نائية.
ثانيها: السكن في المشاعر، إذا نظرت إليه وجدته شبيهاً بمعسكرات المجاهدين.
ثالثها: تنقل وتحرك الحجاج من مكة ومن كل صوب إلى منى، ثم من منى إلى عرفات، ثم من عرفات إلى المزدلفة، ثم إلى منى مرة أخرى، في أوقات محددة منضبطة، وكأنها تنقلات جيوش مجاهدة في سبيل الله تعالى.
رابعها: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن سفر المرأة بدون محرم، قام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإنني اكتتبت في غزوة كذا.
فقال صلى الله عليه وسلم:(اذهب وحج مع امرأتك)، فنقله صلى الله عليه وسلم من جهاد إلى جهاد.
خامسها: سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة جهاداً بالنسبة للنساء، فقال لما سألنه عن الجهاد ولماذا كتب على الرجال فقط؟ قال عليه الصلاة والسلام:(عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).
سادسها: الرجل الذي وقصته دابته فسقط منها فمات وهو محرم، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تغطية رأسه عند تكفينه ودفنه وقال:(إنه يبعث يوم القيامة محرماً ملبياً).
وكذا المجاهد في سبيل الله إذا مات في المعركة فإنه يكفن بأثوابه التي قتل فيها.
إن الحج مدرسة جهادية تعلم المؤمنين وتعلم الأمة كلها كيف تنقل نفسها من عاداتها المألوفة، ومن ترفها، ومن دنياها، ومن مناصبها، ومن جاهها، وتنخلع من ذلك كله لتلحق بركب المجاهدين في سبيل الله.