[منهج أهل السنة والجماعة في العقائد مستمد من الكتاب والسنة]
أيها الإخوة! بعد هذا العرض السريع لمصادر تلقي العقيدة ننتقل إلى قضية عقدية أخرى مرتبطة بها، ألا وهي: أن منهج أهل السنة والجماعة في العقائد لا بد أن يستمد من الكتاب والسنة التي هي الأمور الخبرية، والتي يجب الإيمان بها والعمل على ضوئها، وكذلك أيضاً الاستدلال الشرعي على الأحكام الشرعية يجب أن يكون مبنياً على منهج واضح، ولا يقول قائل: تلك فروع، نقول: وإن كانت فروعاً إلا أن الاستدلال عليها يجب أن يكون المسلك فيه على وفق منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، والاستدلال الشرعي في باب الأحكام ليس فرعياً وإنما هو أصولي، فحينما تأتي قضايا تتعلق بعباداتنا، أو تتعلق بأمور معاملاتنا، أو تتعلق بحياتنا فكيف نستنبط حكمها الذي أوجبه الله سبحانه وتعالى علينا؟ لا بد من منهج شرعي سار عليه السلف رحمهم الله تعالى، ولا يجوز لأحد أن يحيد عنه، وهذه هي مسألة وجوب التحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالتحاكم إلى الشريعة الإسلامية ليس أمراً فرعياً، وإنما هو أمر أصولي، ومن ثم فحينما نقول: منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في العقائد لا يعني فقط ذلك الجانب الذي يفهمه البعض فقط، وهو ما يتعلق بالإيمان بالله أو بأسمائه وصفاته أو بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يرتبط بذلك ارتباطاً أصيلاً منهج الاستدلال الشرعي، لأن الناس جميعاً يجب أن يكون حكمهم ورجوعهم عند التنازع والاختلاف إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في آيات عديدة، يقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤]، وفي الآية الثانية: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥]، وفي الآية الثالثة: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٧]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:٦٥] إلى آخره.
وهنا تظهر في البلاد الإسلامية أحياناً دعوات صريحة، وأحياناً مبطنة إلى رفض التحاكم إلى شريعة الله سبحانه وتعالى، في بعض البلاد الإسلامية تطرح القضية علناً: هل تكون الشريعة هي المصدر الأساسي أو تكون مصدراً من المصادر؟ وفي بعض البلاد قد لا يجرؤ هؤلاء العلمانيون وغيرهم على مثل هذا الطرح الصريح؛ فيبحثون عن طروح أخرى مبطنة، ولهم في ذلك وسائل، وقد سبق أن ذكرنا وسيلة منها، وهي تلك التي يزعم فيها هؤلاء أنه ينبغي الرجوع إلى الكتاب والسنة فقط دون الرجوع إلى فهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى لها، وهذا معناها: عود جديد، على وضع جديد، وتصدير جديد، وربما يؤدي إلى دين جديد.
ومن ذلك أيضاً ما يدعيه هؤلاء أن استنباط الأحكام الشرعية ليس مختصاً بالعلماء المجتهدين، وإنما هو أمر متروك لجميع الناس أو لكل من أراد أن يفكر ويستنبط من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيدخل في ذلك العلماء المجتهدون، ويدخل في ذلك الجهلة، ويدخل في ذلك من ليس عنده علم لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا مدخل خطير جداً؛ لأن معنى ذلك أن الحكم الشرعي وتطبيقه والإفتاء به لا يكون مختصاً كما كان في التاريخ الإسلامي وفي الأمة الإسلامية بفئة العلماء المجتهدين، وإنما ينتقل من هؤلاء إلى غيرهم، وسيتحول الأمر حينذاك إلى فوضى لا نهاية لها.
وهناك أيضاً طريقة أخرى لبعض هؤلاء تشبه طريقة الذين يتتبعون الرخص، فإن هؤلاء يقولون: كل مسألة للعلماء فيها أكثر من قول فيجوز أن نأخذ بأي قول من أقوالهم، فإذا طرحت قضية من القضايا قال لك: هذه القضية قال فيها فلان كذا وقال فيها فلان كذا وقال فيها فلان كذا وانتهى، أي رأي نأخذه من هذه الآراء هو رأي صحيح؛ لأنه قد قال به بعض العلماء، ومعنى هذا أن يتتبع الإنسان شواذ المسائل وشواذ أقوال العلماء والأقوال المرجوحة المخالفة للدليل الصحيح، وتتحول هذه القضايا وهذه المسائل إلى أصول، وهذا منهج أيضاً خطير جداً؛ لأن الواجب على الإنسان أن يعتمد على الدليل، وإذا وجد عنده قولان أو عرض له قولان فإنه لا بد أن يسأل عن الدليل ويبحث عنه، وإذا كان الإنسان عامياً لا يعرف فإنه يقلد من العلماء من كان أوثق وأعرف عنده بالكتاب والسنة، أما دعوى أن يترك الأمر لكل من أراد أن يفتي وأن يقول، ولكل مسألة توجد في الكتب لتكون معتمدة ومطبقة نقول: لا، المنهج الصحيح هو البحث عن الدليل، والترجيح بين الأقوال على ضوء الأصول التي ضبطها علماء السلف رحمهم الله تعالى.
المهم أن هؤلاء العلمانيين وأذنابهم يريدون أن يحطموا شريعة الله سبحانه وتعالى من الداخل، ويريدون أن ينتهي الأمر إلى طرح القضايا أمام الناس طرحاً يسمونه أحياناً طرحاً ديمقراطياً، فنقول: ما رأيكم في القضية الفلانية صوتوا؟! ثم نجمع الناس ويصوتون، فإذا صوت خمسة وخمسون بالمائة أو ستون بالمائة على الرأي الآخر أخذنا به ولو كان مخالفاً للدليل، ولو كان مخالفاً للشرع إلى آخره، بينما المنهج الصحيح في هذا الباب هو أن ترد الأمور عند التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، وترد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بردها إلى العلماء المجتهدين العاملين، فلا ترد إلى آراء الرعاع وعامة الناس.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معقباً على قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:٥٩]: وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة، وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق.
وشيخ الإسلام هنا يشير إلى قول المنافقين: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:٦٢] وهذا الذي يقوله أصحاب السياسات الجائرة التي تخالف الكتاب والسنة، إذا جئتهم قالوا: السياسة والأمور لا تصلح إلا بهذا، ولو كانت مخالفة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
شيخ الإسلام يقول: وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة من بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب.
ومن ثم فإن علماء الإسلام رحمهم الله تعالى بينوا أن من يتصدى للقضاء والإفتاء لا بد أن يتصف بعدة صفات ذكروا من ذلك: الإسلام، والتكليف، والعدالة، ثم ذكروا أن يكون من أهل الاجتهاد، وهذا الاجتهاد يشمل عدة أمور: أولها: العلم بالكتاب والسنة وما يتعلق بهما من أحكام، وتمييز ناسخ الآيات ومنسوخها، وناسخ الحديث ومنسوخه، وتمييز صحيحه من ضعيفه إلى آخره.
الأمر الثاني: العلم بلسان العرب.
الأمر الثالث: العلم بأصول الفقه التي هي أصول الاستدلال، حتى يكون المفتي بانياً فتواه على أصل مقرر لا على دعاوى، أو آراء عقلية مجردة.
وذكروا أيضاً صفات لمن يتصدى للإفتاء وللقضاء، ومنها: أن تكون له نية صالحة يريد فيها أن يبين أحكام الله للناس، وليس من الذين يريدون أن يبدلوا شرع الله سبحانه وتعالى، كذلك أيضاً أن يكون متضلعاً في العلم الشرعي، دارساً له، متقناً له.
وكذلك أن تكون له معرفة بأخلاق الناس، وعاداتهم وانحرافاتهم ومقاصدهم؛ حتى تكون فتواه على بينة ومعرفة بأمرهم، ثم أن يكون حليماً متأنياً غير متسرع في إصدار الأحكام، وهذه قضايا مهمة جداً.
وينبغي أيضا أن يعلم أن الإفتاء أنواع: النوع الأول: إفتاء مجرد عن الاجتهاد، وهذا ما يكون من باب الأخبار الخالصة، كأن يسأل العالم سؤالاً فيجيب بما يعلمه من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيسأله السائل ويقول له: ما أعظم آية في كتاب الله؟ فيأتي هذا العالم ويقول: آية الكرسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك.
النوع الثاني: ما يكون معه اجتهاد، بأن يجتهد العالم لاستنباط الحكم الشرعي، وهذا أيضاً على ضربين: أحدهما: ما يسمى بعلم أصول الفقه بتحقيق المناط، بمعنى: أن تكون الأحكام الشرعية معلومة بالكتاب والسنة والإجماع، ثم يأتي هذا المجتهد فينزل تلك الأحكام على هذه الواقعة، وفي هذه الحالة يجب على المفتي أن يعرف هذه الحالة فينزل عليها هذا الحكم، وهذا في الأمور التي قد وضحت دلالتها من الكتاب والسنة، وتكون مهمة المجتهد المفتي هنا هي فهم الواقعة فهماً صحيحاً لتنزيل ذلك الحكم عليها.
النوع الثاني من أنواع الاجتهاد: أن يكون الحكم الشرعي الذي يريده المجتهد لهذه الواقعة غير معلوم له، فيحتاج منه إلى أن يبحث في الأدلة ويجتهد فيها؛ ليستخرج الحكم، ثم بعد ذلك يطبق ذلك الحكم على تلك الواقعة، وكما تعلمون جميعاً فإن العلماء اشترطوا للمفتي شرطين أساسيين: أحدهما: معرفة الأحكام الشرعية، وهذه هي قضية الاجتهاد التي أشرنا إليها.
الثاني: فهم الواقع، ومعرفة صورة الواقعة التي حدثت معرفة تامة؛ حتى يكون إفتاؤه وحكمه فيها حكماً مبنياً على تصور واضح، فلا بد أولاً من تصور الحكم الشرعي، ولا بد ثانياً من فهم الواقعة.
ثم يأتي التطبيق العملي وهو الأمر الثالث، بتنزيل ذلك الحكم على تلك الواقعة، فأين هذا من منهج أولئك الذين يريدون أن يحرفوا الناس عن عقيدتهم وعن شريعتهم بتلك الوسائل، ويريدون ألا ترد الأمور إلى أهلها، وإنما ترد إلى عامة الرعاع من غير المجتهدين ومن غير العلماء؟! ذلك منهج خاطئ يجب أن ننتبه له، والعلمانيون وغيرهم قد بدءوا يسلكون هذا المسلك؛ ليجعلوا قضية فهم نصوص الكتاب والسنة عقيدة وشريعة متاحة للجميع، وكل يقول فيها بما يشاء، ويفتي فيها بما يشاء، وحينئذ تتحول الأحوال والأمور إلى آراء وأفكار بعيدة عن الشرع، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخ