للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فهم الصحابة للنصوص مقدم على فهم غيرهم]

القضية الثانية المتعلقة بمصدر التلقي عند أهل السنة والجماعة هي: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم هم المبلغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن فهمهم للنصوص مقدم على فهوم غيرهم، وهذه قضية تابعة للأولى لكنها مرتبطة بها ارتباطاً تاماً، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أحرص الناس رضي الله عنهم وأرضاهم على فهم الكتاب والسنة وعلى تطبيقهما، ومن ثم فإن التطبيق العملي عقيدة وشريعة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجده أفضل ما يكون عند أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم أجمعين، ولقد تميز هؤلاء الصحابة بعدة ميزات، ولعل من أهمها حرصهم الشديد على الفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان الواحد منهم إذا حدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به عليه الصلاة والسلام.

كذلك أيضاً كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسائل وعما يشكل عليهم، والنبي عليه الصلاة والسلام لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه وقال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم له: لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسأل عن هذا الحديث أحد أولى منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث).

وكانوا أيضاً يراجعون السنة، بل كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها زوج النبي صلى الله عليه وسلم لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وهذا في صحيح البخاري.

وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول: (كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه).

فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا حريصين كل الحرص على التلقي عن رسول الله، وعلى حسن الفهم عنه، وعلى تطبيق ما يرد إليهم وما يسمعونه، سواء كان من كتاب الله أو من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قد آتاهم الله حفظاً، ودعا الرسول لبعضهم، بل كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يحتاطون في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتياطاً شديداً، وهذه القضية معروفة لدى علماء الحديث، والنتيجة التي ينبغي أن نخلص منها هنا هي: أن الكتاب والسنة يرتبط فهمهما وتفسيرهما في الاعتقاد والفروع أول ما يرتبط بفهم السلف رحمهم الله تعالى، وأي انفكاك عن هذا الفهم فهو ضلال مبين، وانفتاح لباب القرامطة والرافضة، والعقلانيين والفلاسفة، والمعتزلة والمتأولة وغيرهم.

وهذه القضية -وهي قضية أن السلف رحمهم الله تعالى هم الذين يجب أن يتلقى عنهم فهم النصوص- هي التي قررها علماء السلف المتقدمون منهم والمتأخرون، حتى أن الإمام أبا حامد الغزالي وهو الذي عرف عنه تصوف ودخول في علم الكلام ثم بعد ذلك رجوعه في آخر أمره إلى الحديث.

هذا الرجل الذي اشتهرت كتبه وفيها كثير من البدع، لما كان في آخر عمره رجع إلى علم الحديث، ورجع إلى مذهب السلف رحمهم الله تعالى، وقرر أن الحق هو مذهب السلف، وأن هذا إنما يجب لأننا لا بد أن نسلم بعدة أصول: أولها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بصلاح أحوال العباد في معاشهم ومعادهم، الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم بلغ كل ما أوحي إليه من صلاح العباد في معاشهم ومعادهم، ولم يكتم شيئاً، وأنه كان أحرص الخلق على صلاح الخلق وإرشادهم إلى صلاح المعاش والمعاد.

الثالث: أن أعرف الناس بمعاني كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأحراهم بالوقوف على كنهه، وإدراك أسراره، الذين لازموه وعاينوا التنزيل، وعرفوا التأويل وهم أصحابه.

الرابع: -وهذا كله للغزالي في آخر أمره- أن الصحابة في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل، ولو كان من الدين لأقبلوا عليه ليلاً ونهاراً، ودعوا أولادهم وأهلهم إليه.

يقول الغزالي: فنعلم بالقطع من هذه الأصول أن الحق ما قالوه، والصواب ما رأوا.

وهذه نتيجة تجربة لأكبر علم من علماء أهل الكلام والتصوف، يقرر بعد تجربة امتدت عشرات السنين أن مذهب السلف رحمهم الله تعالى هو الحق ولا حق غيره، فهل يعي ذلك أولئك العقلانيون وغيرهم الذين يريدون أن يدخلوا في ديننا وشرعنا تلك المعقولات الباهتة، والآراء والأقيسة العقلية، هل يعقلون تجارب هؤلاء نرجو ذلك.