أيها الأخ الحبيب! مضى درسان من دروس الحج الكبار، أحدهما: نقلة إلى الدار الآخرة، وذكرى بيوم القيامة.
والثاني: استعداد ورحيل، استعداد ورحيل إلى الله سبحانه وتعالى بالجهاد في سبيل الله؛ لأن المجاهد باع نفسه لله:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}[التوبة:١١١]، فالمجاهدون باعوا أنفسهم لربهم تبارك وتعالى.
ونقف الآن مع درس ثالث، درس يعلم المؤمنين أن هذا الحج مدرسة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في صفاء العقيدة وسلامتها وخلوصها من الشرك بالله تبارك وتعالى.
إن إبراهيم عليه السلام الذي بنى هذا البيت هو الذي دعا إلى الملة الحنيفية القائمة على إخلاص التوحيد لله والبراءة من الشرك وأهله، كما قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج:٢٦]، فالحج مدرسة ترجع كل مسلم إلى الأصل العقدي الواجب الذي لا يجوز أن نفرط فيه، وهو التوحيد الخالص لله والبراءة من الشرك.
وينبثق من هذا التوحيد الطاعة لله تبارك وتعالى فيما أحب الإنسان أو كره، وسواء رضي عنه الآخرون أو لم يرضوا.
فهذا إبراهيم يترك ولده الرضيع إسماعيل وأمه هاجر -وقد أنزلهما مكة قبل عمارتها وقبل بناء البيت- يتركهما بلا ماء ولا زاد، ويذهب لأمر الله تبارك وتعالى، وتلحق به هاجر وتصيح به: كيف تتركنا هاهنا؟ وهو لا يلتفت إليها، ولكنها المرأة المؤمنة عرفت السر فقالت: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم؟ فأشار إليها أن: نعم.
قالت: إذاً لا يضيعنا الله.
إنه الامتثال لأمر الله من إبراهيم وزوجه، ولم يضيعهم الله، تفجرت مياه زمزم تحت أقدام الرضيع بعد سعي أمه بين جبلي الصفا والمروة لتكون سنةً وشريعةً إلى يوم القيامة.
ولما بلغ إسماعيل السعي مع أبيه وصار بحيث تتعلق نفس الوالد به أشد التعلق أمره الله بأمر عظيم: أن يذبح ولده، فاستجاب الوالد دون تردد، واستجاب الولد وقال:{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات:١٠٢]، وأسلما لربهما {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}[الصافات:١٠٣]، ووقع الامتثال الكامل، ولكن رحمة الله كانت قريبة، ففداه الله بذبح عظيم، فصارت الأضحية سنة إلى يوم القيامة.