[سبب غزوة تبوك، وسبب تسميتها بغزوة العسرة]
كان للمسلمين في هذه الغزوة العظيمة دروس وأي دروس! ولما كان استعراض تلك الغزوة يطول بنا فإننا آثرنا أن نقف بعد هذا العرض الموجز السريع عدة وقفات تبين شيئاً من أحداثها.
وأول وقفة نشير إليها هنا هي: سبب هذه الغزوة، ولماذا سميت بغزوة العسرة؟ قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة:١١٧].
وقد ذكرت عدة أسباب لهذه الغزوة، لكن المتأمل لها يجد أنها أسباب ضعيفة.
فقد قيل: إن نصارى العرب قالوا لـ هرقل: إن هذا النبي قد مات، فأدرك دينك واهجم على جزيرة العرب.
فاستعد هرقل لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الجزيرة، فعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على قتالهم.
وقيل: إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أنك ذهبت إلى بلاد الشام لأنها بلد الأنبياء وبلد المحشر.
فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هناك استجابةً لقول هؤلاء، ونزل في ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٧٦]، ولكن أيضاً هذا القول ضعيف؛ إذ كيف يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من يهود وهو يعرف كذبهم وخداعهم؟ كذلك أيضاً قيل: إن الروم جمعوا جموعاً لحرب النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الرسول أن يواجههم هناك.
كذلك أيضاً قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما غزا هذه الغزوة ثأراً لابن عمه جعفر بن أبي طالب الذي استشهد في مؤتة.
وكل هذه الأقوال ليس لها سند صحيح، فكل هذه الأسباب إما أسباب ضعيفة، وإما أسباب باطلة لا تليق بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويأتي السؤال هنا: إذاً ما هو سبب هذه الغزوة؟
و
الجواب
الحقيقة أن المتأمل لأحداثها ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد يجد أن سبب هذه الغزوة هو مشروعية الجهاد في سبيل الله، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلم أصحابه من بعده، وأراد أن يعلم هذه الأمة أنه لابد من الجهاد في سبيل الله امتثالاً لقول الله تعالى: {َوقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:٣٦].
وامتثالاً لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:١٢٣]، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لملاقاة الروم لإثبات أن هذا الدين هو الدين الحق، وأن هذا الدين هو الذي يجب أن يسود في الأرض، وأن المسلمين واجب عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله، وأن لا يتركوا الجهاد أبداً، ومن ثَّم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا).
إذاً: هو تخطيط من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخطيط دقيق في آخر غزوة غزاها، حيث أراد أن يعلَّم المسلمين أن الإسلام وأن الفتوحات يجب أن تنتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الذي فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما توقفوا رضي الله عنهم بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى في مكان، وإنما امتدت الفتوحات إلى بلاد فارس، وإلى بلاد الروم، وإلى مصر، وإلى مشارق الأرض ومغاربها، وصلوا إليها فاتحين مجاهدين في سبيل الله، ينشرون العدل والتوحيد والإيمان والحكم الإسلامي الذي يبنى على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم حين تخضع البلاد لحكم المسلمين ولهيمنتهم لا إكراه في الدين بالنسبة لأهل الكتاب في غير جزيرة العرب، ولهذا فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة علم أمته ذلك.
وهذه الغزوة سميت غزوة العسرة؛ لأنها تميزت بجوانب مختلفة عن غيرها من الغزوات، ومن ذلك: أولاً: أنها كانت في شدة الحر، وفي لهيب القيظ المحرق، ولقد وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما وجدوه، حتى قال قتادة: خرجوا إلى الشام في تبوك في لهيب الحر على ما يعلم الله من الجهد، حتى ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، وهكذا.
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فنزلنا منزلاً، فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع من شدة الحر).
ثانياً: أنه كان في هذه الغزوة سفر بعيد، وليست غزوة يصلون إليها خلال يوم أو يومين، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:٤٢]، فكان السفر بعيداً.
ثالثاً: أن العدو خطير، وهو الروم بجيوشهم وعتادهم وسلطانهم ونفوذهم، ولقد كانت قلوب المنافقين تتقطع في المدينة خوفاً من مواجهة الروم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
رابعاً: أن الجيش الإسلامي كان جيشاً ضخماً يحتاج إلى مؤن، ويحتاج إلى استعداد، والمسلمون في غاية الحاجة والفقر.
ولهذه الأسباب كانت هذه الغزوة غزوة عسرة، وقد تربى فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أيما تربية، ولهذا كانت هذه الغزوة فيها من العبر وفيها من الدروس وفيها من مواقع التربية الشيء الكثير.