للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[امتداح النبي صلى الله عليه وسلم ليوسف عليه السلام بالتقوى والصبر]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

وبعد: وتستمر هذه المدرسة.

سادساً: ويمتدح النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً عظيماً من مواقف يوسف عليه الصلاة والسلام وهو في السجن، حيث إنه عليه الصلاة والسلام سجن ظلماً بمكيدة امرأة العزيز التي راودته عن نفسه، وصرحت للنسوة اللاتي تحدثن عنها، فاحتالت عليهن حتى رأينه فقطعن أيديهن، وقالت لهن بعد ذلك كما ذكر الله عنها: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:٣٢ - ٣٣] فسجنوه، ومكث في السجن بضع سنين، وجرى له في السجن مع بقية المسجونين ما قصه الله علينا، ثم رأى ملك مصر رؤياه وطلب تعبيرها، فتذكر أحد أصحاب يوسف الذين خرجوا من السجن يوسف وتعبيره للرؤى، فطلب مقابلته في السجن، فقابله وعبر له رؤيا الملك، وكان تعبيره لها ذا أثر عظيم في اقتصاد مصر في ذلك الوقت لسنين طويلة، فأعجب الملك هذا التعبير للرؤيا وأمر بالإفراج عنه، بل وأمر أن يأتوا به إليه ليقابله فوراً، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:٥٠]، لكن هيهات أن يقبل يوسف الخروج من السجن إلا بعد أن تكشف الحقيقة في سبب سجنه؛ لأن المعلن للناس أمر عظيم يتعلق بالعرض، حيث اتهم بمراودة امرأة العزيز، وسجن لأجل ذلك، ولهذا أبى يوسف أن يخرج مع أنه ذاق السجن وأهواله بضع سنين، قال الله تعالى عن يوسف: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٠]، وإنما قال يوسف: ما بال النسوة؛ لأنهن شواهد على تصريح امرأة العزيز وكشفها للحقيقة أمامهن، حيث ذكرت لهن أنها راودته عن نفسه، وأنه استعصم عنها، وأنه إن لم ينفذ هذه الجريمة فسيكون مصيره السجن.

واستدعى الملك النسوة، وكشفن الحقيقة كاملة كما قص الله ذلك، واعترفت امرأة العزيز بفعلتها واعتذرت، فلما كُشفت الحقيقة وظهرت براءة يوسف خرج يوسف عليه السلام من السجن معززاً مكرماً، قال الله تعالى بعد ذلك: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:٥٤] إلى آخر الآيات حيث مكن الله ليوسف كما هو معلوم من قصته.

ولقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم موقف يوسف عليه الصلاة والسلام بأسلوب يدل على مبلغ التواضع الذي بلغه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبأسلوب يدل على امتداحه لهذا الموقف الكريم من يوسف عليه الصلاة والسلام، حيث أبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد إثبات البراءة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى عنه البخاري: (يرحم الله لوطاً! لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي).

قال ابن حجر رحمه الله: أي: لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن، ولما قدمت طلب البراءة، فوصفه بشدة الصبر حيث لم يبادر بالخروج، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم تواضعاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>