[خطأ المتكلمين في الاستدلال بصفات الأجسام على حدوث العالم]
فجاء أولئك المتكلمون ليأخذوا بمنهج آخر في إثبات حدوث العالم وليقولوا: إن حدوث العالم إنما دلت عليه صفات الأجسام، أي: كون هذه الأجسام فيها صفات من تغير وتنقل واستحالة ونحوها، ومن ثم فهي حادثة، ومعنى ذلك: أننا نستدل على أن القمر مخلوق بأن هذا القمر يتحرك، ونستدل على هذه الأرض بأنها مخلوقة أنها تسبح في هذا الكون وكذا الشمس وكذا غيرها.
فاستدلوا بصفات الأجسام على أنها مخلوقة، وقالوا: كل جسم تحدث فيه صفات ومتغيرات فهو حادث.
قد يقول الإنسان وهو ينظر إلى هذا الدليل: إن هذا فيه شيء من الصحة، لكن في الحقيقة هو باطل، وفتح عليهم باباً عظيماً جداً من أبواب الضلالة؛ لأن هؤلاء قيل لهم: هل هذا هو الدليل الوحيد على حدوث العالم، وأن الأعراض إذا حلت في الأجسام دلت على أن الأجسام حادثة؟ قالوا: نعم، فجاءهم بعض المنحرفين من المتفلسفة وغيرهم وقالوا لهم: إذاً ماذا تقولون في صفات الله وصفات الله أعراض؟ إن قلتم إن هذه الصفات تقوم بالله، فيقوم به صفة العلم وصفة الإرادة وصفة الخلق وصفة الاستواء وصفة المجيء وصفة الضحك وصفة المحبة وغير ذلك من الصفات الواردة؛ فيلزمكم على هذه القاعدة أن يكون الله جسماً، وأن يكون حادثاً فينتقض عليكم أصلها، أنتم أردتم أن تثبتوا أن الله سبحانه وتعالى أزلي، وتثبتوا أن ما سواه مخلوق، وأن هذا الكون حادث، فعلى أصلكم هذا انتقض عليكم الدليل، وصار مجالكم مجال المدافعة، لتنفوا عن الله سبحانه وتعالى أنه جسم لئلا يكون حادثاً.
وفعلاً صدقوا بهذه المناقشة، فقالت المعتزلة: إذاً لا يتم الدليل إلا بنفي الصفات عن الله؛ لأننا لو أثبتنا الصفات لله لكان مثل الأجسام فيكون حادثاً، فنفوا عن الله جميع الصفات.
وجاءت طائفة أخرى وهم الأشاعرة والكلابية فقالوا: نفرق بين الصفات الذاتية وبين الصفات الفعلية.
فالصفات الذاتية لا نسميها أعراضاً ونثبتها لله، كالعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر ونحوها، أما الصفات الفعلية التي يفعلها ربنا متى شاء إذا شاء، مثل خلقه للسماوات والأرض، ومثل كونه يتكلم إذا شاء متى شاء، ومثل كونه سبحانه وتعالى استوى على العرش، ومثل كونه يجيء يوم القيامة، ومثل كونه سبحانه وتعالى يحب عبده هذا اليوم إذا أطاع ويغضب عليه غداً إذا عصى؛ قالوا: هذه صفات أفعال تدل على تغيرات فننفيها عن الله سبحانه وتعالى.
وبذلك نفوا الصفات من خلال دليل عقلي استمدوه من غيرهم، ولو أنهم أخذوا بالدليل الصحيح لما احتاجوا إلى مثل هذا، ولما وقعوا في هذه الورطة التي أوقعوا بها أنفسهم من خلال أخذهم بمناهج غريبة، ولهذا السبب نفسه أيضاً نجد أن هؤلاء المتكلمين ردوا نصوصاً كثيرة صريحة من أجل تلك الأصول العقلية.
أيها الإخوة! بما أن الأدلة تدل على علو الله سبحانه وتعالى وأنه فوق خلقه، وأنه على العرش استوى، وهذه الأدلة كثيرة جداً تبلغ المئات، بل تزيد عليها في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه وتعالى في السماء، وأنه بائن من خلقه، ومع هذا كله جاء هؤلاء بأدلة عقلية وشبه وهمية فقالوا: إن القول بأن الله فوق العالم باطل، وتأولوا هذه النصوص الصريحة كلها وردوها، ثم إذا قيل لهم: إذا كنتم تنكرون أن يكون الله فوق العالم، فأين الله؟ فقال بعضهم: إن الله في كل مكان، وهذا شبيه بقول الحلولية إن الله في كل مكان، إذاً: ربنا لا يتميز لا بذات ولا بصفات.
وقال بعضهم قولاً لا يقبله عقل، قال: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فقيل لهم: هذا مستحيل، إن الله إذا لم يكن داخل العالم فهو خارج العالم، وإذا لم يكن خارج العالم فهو داخل العالم، فكيف يكون لا داخل العالم ولا خارجه؟! هذا لا يقبله عقل.
وهكذا تأولوا نصوص الصفات كالاستواء والوجه واليدين والمحبة والرضا وغير ذلك، وتألوا نصوص العلو، وتأول بعضهم نصوص الرؤية وقال: إن الله لا يرى كما هو مذهب المعتزلة، فلما أعملوا في النصوص تأويلاً تسلط عليهم الفلاسفة والقرامطة وقالوا لهم: أيضاً نحن نعمل في النصوص تأويلاً، فقال الفلاسفة: أنتم تأولتم نصوص الصفات وهي كثيرة، فنحن أيضاً نتأول نصوص المعاد الواردة في القرآن، فنقول: إن المعاد غير حقيقي وإنما هو وهم.