نقول بعد الكلام عن تعريف المحبة: إن هذا الموضوع كثيراً ما يختلط الأمر فيه على بعض الناس، فالمحبة من أسس العبادة التي يجب صرفها لله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يجب تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وحب المؤمنين في الله وبغض الكافرين في الله من أوثق عرى الإيمان, والواجب أيضاً على الجميع أن يحبوا الطاعات التي أمر الله بها، وأن يبغضوا المعاصي الذي نهى الله تبارك وتعالى عنها.
فما الفرق بين هذه الأنواع؟ وكيف تكون العلاقة فيما بينها؟ إن ذلك يتبين من خلال الحديث عن القضايا التالية: أولاً: ينبغي أن يعلم الجميع أن محبة الله تعالى هي الأساس التي تقوم عليها العبادة، وذلك مع الخوف والرجاء وبقية أنواع العبادة، وتحقيق لا إله إلا الله لا يتم إلا مع كمال الحب لله وكمال الذل له تعالى، ثم ينتج عن ذلك كمال الطاعة له تبارك وتعالى.
وحقيقة الحنيفية التي هي ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن تخلص حبك لله تعالى بكل قلبك وقصدك، وأن توحد محبوبك في هذا الحب، بحيث لا يبقى في قلبك بقية حب إلا وتبذلها فيه، وإذا تم هذا الأمر تم الأمر الثاني من مقتضيات تحقيق التوحيد والملة الحنيفية، ألا وهو الكفر بالطاغوت والبراءة منه.
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان: وإذا لم يكن الله وحده غاية مراد العبد ونهاية مقصوده، وهو المحبوب المراد له بالذات والقصد الأول، وكل ما سواه فإنما يحبه ويريده ويطلبه تبعاً لأجله، لم يكن قد حقق شهادة أن لا إله إلا الله، وكان فيه من النقص والعيب والشرك بقدره.
وهذا أمر واضح وهي علاقة المحبة بكمال الذل والطاعة، وستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى، لكن كلما عظمت محبتك لربك وإخلاصك لتلك المحبة له تعالى؛ تبين هذا بعظيم ذُلّك لربك تبارك وتعالى وطاعتك له وامتثالك لأوامره واجتنابك لنواهيه.
ثم ينبغي أن يعلم أيضاً أن محبة الرب تختص وتتميز عن غيرها في قدرها وصفتها وإفراده تعالى بها، وليس هناك شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده، الذي لا تصلح الألوهية والعبودية والذل والخضوع والمحبة التامة إلا له سبحانه وتعالى، قال الله تبارك وتعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:٢٢]، والإله هو المألوه المحبوب المعبود.
ثم ينبغي أن يعلم أيضاً أن الإنسان له قلب واحد، كما قال الله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}[الأحزاب:٤]، فإذا امتلأ هذا القلب بحب الله تعالى وإرادته وحده، لم يبق فيه مكان لحب من سواه، قال الله تبارك وتعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[البقرة:١٦٥]، وكلما تمكن هذا الحب في قلب المؤمن لربه تعالى خرج منه الحب والتأله لما سواه، وهذا أيضاً أمر مشاهد، فإن من تعلق قلبه بغير الله وصار محباً له عابداً له مطيعاً له؛ لا يمكن أن يكون في قلبه حب لله تبارك وتعالى ولا طاعة، وكلما نقص هذا نقص من ذاك، والأمر واضح والحمد لله تعالى، لكن ينبغي أن يعلم الجميع أن مسألة كون القلب واحداً، فإنه لا يمكن أن يكون فيه ما يملأ اثنين، وإنما يكون بالنسبة لعبادة الله وحده لا شريك له، وما تقتضيه هذه العبادة من المحبة الخالصة له وكمال الطاعة، فكل من يحب أو يطيع غير الله تبارك وتعالى فإنما تكون محبته وطاعته لأمر آخر كما سيأتي بعد قليل، ومن ثم فإن أكبر ما يميز الفرق بين حب الله وحب غيره، وبين منزلة إفراد المحبة لله تعالى وكونها من أكبر وأعظم قواعد الدين: هو التفريق بين الحب في الله والحب مع الله.