للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التمييز بين البدع والمصالح المرسلة]

الأمر الآخر قضية البدعة والتمييز بين ما هو بدعة في الدين وبين ما هو مصلحة مرسلة جائزة، وهذه القضية أيضاً تعتبر من الأصول في منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فقد أخطأ فيها طائفتان: إحداهما جعلت كل ما هو جديد بدعةً، فحكمت على كل جديد بذلك، وأعرضت عنه ودعت إلى رفضه، فلما رفضته دخل في ذلك ما هو بدعة حقاً -وأصابت في ذلك- لكنها أدخلت ما ليس ببدعة مما هو من الأمور المباحة في باب البدع وهذه قضية -أي: التعامل مع الحياة المعاصرة- استجدت حتى في حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما انتقلوا من جزيرة العرب إلى بلاد الشام والعراق وما وراء ذلك، استجدت لهم أشياء مادية وغير مادية.

كذلك أيضاً نحن في عصرنا الحاضر استجدت للحياة المعاصرة أشياء كثيرة، فما هي طبيعة التعامل معها؟ الطائفة الأولى ترفض كل ما هو جديد مسميةً له بالبدعة.

فلما كان رأي هذه الطائفة بهذا العرض قابلتها الطائفة الثانية التي فتحت الباب على مصراعيه، فقبلت كل ما وجد، وأدخلت في ذلك كل ما هو مستجد من بدع مختلفة، وهكذا تميع الإسلام عند هؤلاء -أعني الطائفة الثانية- حتى أصبح الإنسان لا يميز في منهج هؤلاء بين الإسلام وبين الكفر.

أما منهاج السلف الصالح في ذلك فقد كان منهاجاً علمياً وسطاً مبنياً على الأدلة الصحيحة واستقرائها، ومن ثم فقد ميزوا بين البدع في باب العقائد التي هي عندهم ثوابت وبين غيرها مما استحدث وابتدع، فأنكروا بدع العقائد كلها، وبينوا منهاج الكتاب والسنة في ذلك، ومنهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في تصفيتها، وعلى ذلك تجد المنهاج السلفي واضحاً, فهو الذي رفض فلسفة أرسطو لما ترجمت في القرن الثالث الهجري، وهو الذي يرفض في عصرنا الحاضر الفلسفات الوجودية والعبثية والوضعية وغيرها من الفلسفات الإلحادية؛ لأن العقيدة ثابتة، ومصدرها واحد، ولا حاجة بنا إلى عقائد أخرى.

ثانياً: ميزوا أيضاً بين ما هو من أصول الشريعة العبادية الثابتة سواء أكانت عبادات أم كانت أصول معاملات، ومن ثم جعلوا أي إحداث فيه تغيير أو ظن أنه يكمل ما يعتقد أنه ناقص جعلوه بدعة مرفوضة، ولهذا نجد أن التعريف الصحيح للبدعة أنها إحداث في الدين على وجه القربة.

فهو يريد أن يبتدع عبادة أو يتبع أصولاً تناقض أصولاً شرعية فتتحول القضية هذه إلى قضية بدعة، ولذلك تجد -مثلاً- أن من أراد أن يبتدع للأمة عبادة -ولو كانت نيته طيبة- جديدة من صلاة أو ذكر أو غير ذلك فإن فعله هذا بدعة مرفوضة، لأن البدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة إضافية، وبدعة حقيقية، حسب التقسيم المعروف.

أقول: بدعته هذه بدعة مرفوضة؛ لأنه أراد أن يكمل هذا الدين بمكمل من عنده يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا يخالف القضية الكبرى التي ذكرناها سابقاً، وهي كمال هذا الدين، ومثله لو أراد أن يبتدع بدعةً ينقض فيها أصلاً من أصول الإسلام، وأضرب مثالاً على الوجه الثاني: الآن توجد دعوة في عالمنا الإسلامي تزعم أن الربا قضية عصرية ضرورية، ومن ثم فلا بد من أن نبحث في أدلة الإسلام عمَّا يدل على أنها جائزة، لماذا؟ قالوا: لأنها ضرورة عصرية، فهنا في هذا الحالة هل يساوم المؤمن على أصل من الأصول؟ لا يساوم، بل إن المتأمل اليوم لمشكلة العالم كله في عصره الحديث -بصرف النظر عن انحرافاته العقدية والفكرية والأخلاقية وغيرها- إذا نظرنا إليها من الناحية الاقتصادية فإنه يجد أن أكبر مشكلة هي مشكلة الربا، فالأزمات العالمية للدول الصناعية والدول الفقيرة إذا فتشنا عنها نجد أن سببها الربا، إذاً هذا أصل، فمن أراد أن يستبدل بهذا الأصل أصلاً آخر فإن هذا الاستبدال مرفوض.

ثالثاً: أن ما عدا ذلك من أمور الحياة مما يستجد من أشكالها وأنماطها فإن هذا يؤخذ به بشرط أن يتلاءم مع أصول العقيدة وقواعد الشريعة، وهذه أيضاً قضية في عصرنا القديم والحديث، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما أتوا إلى أمور استجدت في البلاد التي فتحوها أخذوا بها.

أقول: الصحابة رضوان الله عليهم تعاملوا مع ما استجد مما واجهوه في البلاد التي فتحوها تعاملاً مبنياً على منهاج صحيح، فرفضوا ما يصادم أصول العقيدة، وأخذوا بمستجدات الحياة بما يتلاءم معها.

وإذا انتقلنا إلى عصرنا الحديث وجدنا أيضاً أن المنهاج السليم منهاج العقيدة لا يتعارض مع الحضارة، لقد مضى قبل خمسين سنة أو أربعين سنة ذلك الزمان الذي كان يقول فيه القائل: إن الإسلام يرفض الحضارة، ويرفض الاختراعات والسيارات والطائرات وغيرها.

مضى هذا الزمن، بل ومن نعمة الله سبحانه وتعالى أننا نجد أن كثيراً من شباب الصحوة -وفقنا الله وإياهم، وثبتنا وإياهم جميعاً- يتخصصون بتخصصات علمية دقيقة، وتجد الواحد من هؤلاء يحمل منهاجاً سلفياً صحيحاً، وفي نفس الوقت أيضاً يحمل أعلى التخصصات العالمية، ولا تعارض بين القضيتين، وهذه ما هي إلا نماذج عملية نشاهدها على مستوى الفرد، ويجب أن تكون على مستوى الأمة، بحيث يكون منهاجها في التعامل مع ما هو جديد منهاجاً مضبوطاً بمنهاج الكتاب والسنة على قضية ما سبق أن ذكرناه في مسألة البدعة.

فما هو من البدعة فإنه يتجنب، وما ليس ببدعة فلا يتجنب وإنما يستفاد منه، وهذه القضية تحتاج إلى مواقف عملية؛ لأن دعاة التغريب والعلمانية في بلاد الإسلام يصفون الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى بأنهم إنما يريدون طمس الحضارة والقضاء على الحضارة، ويصفونهم أحياناً بصفات بشعة، منها أنهم ظلاميون، وأنهم متوحشون إلى آخر الصفات التي تسمع، ولا يزال الإعلام في كل حين يأتي بمصطلحات جديدة، فهذه العبارات الموجهة ضد الصحوة المعاصرة إنما هي موجهة إلى المنهاج الحق منهاج السلف الصالح رحمهم الله، لكن لا بد من شماعات يعلقون عليها تهمهم وهجومهم على الإسلام والسلفية.

أما الغرب فإنه يريد إسلاماً غير مطبق، يريد للعالم الإسلامي أن يبقى على هويته الإسلامية في الشكل فقط، أما حياته ونظمه وعلاقاته وولاؤه وبراؤه وأحكامه وتشريعاته وغير ذلك فهي تبقى على ما هي عليه من علمنة وبعد عن الله، هذا الذي يريده الغرب، ومن هنا فإن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى الذي يدعو إلى منهاج السلف الصالح عليه أن يبصر هذه القضايا ويتدبرها، وأن يعلم ويوقن أن هذه القضايا المعاصرة التي يكثر الحديث عنها في هذه الأيام وتوجه فيها السهام إلى الإسلام أن هذا الأمر إنما يدل على عظمة هذا الدين وصحة ذلك المنهاج، المسلمون اليوم ضعفاء ومتفرقون، وحالهم يرثى لها كما يشاهد، ومع هذا فلا تزال السهام ترسل قوية جداً إلى المسلمين، أرأيت لو عدنا إلى منهاج صحيح، وعدنا إلى ديننا وإلى عقيدتنا وإلى شريعتنا وطبقناها من خلال فهم صحيح مؤصل كيف ستكون الحال؟ لا شك أن الحالة ستتغير: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١].

إذاً العودة إلى منهاج السلف الصالح لا خيار للأمة الإسلامية فيها، والأمة الإسلامية إن ظنت أنها تستطيع أن تلحق بالغرب في تقدمه المادي فأظن أن مفكريها يدركون أن الغرب قد سبقهم إلى ذلك أشواطاً بعيدة، وأن الغرب حتى هذه اللحظة لا يسمح بنقل تلك الحضارة المادية وأصولها إلى المسلمين، لا يزال يحتفظ بمفاتيح مخترعاته على مختلف أنواعها وأشكالها، فمن ظن أنه يمكن بهذه الطريقة أن يعيد للأمة الإسلامية مجدها فهو مخطئ، لكن ما هي الطريقة الصحيحة التي تجمع بين الأمرين؟ هي العودة أولاً إلى هذا الدين وإلى هذا المنهاج، والعودة إلى هذا المنهاج ستكون أول سبب من أسباب الاستقلال والتميز لهذه الأمة عن مشرق أو مغرب، ومن ثم فإن هذه الحقيقة الناصعة يجب أن يدركها الجميع.

<<  <  ج: ص:  >  >>