[بيان معنى التوحيد المطلوب من العبد]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فلا شك أن الدروس التي تنظم عدداً من الجمل في قضية مهمة مثل قضية التوحيد؛ لا شك أنها دروس لها أهميتها بالنسبة لنا وبالنسبة للمسلمين جميعاً، ومن هنا فإن الدرس التالي سنعرض فيه إن شاء الله تعالى لأثر التوحيد.
وأحب في مقدمة هذا الدرس أن أبين عدة أمور: أولها: أن التوحيد الذي نتحدث عن أثره هو ذلك التوحيد الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الرسل من قبله، وسلك أتباعهم رضوان الله عليهم منهاجهم، وعلى رأس أتباع الرسل صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم فهموا حقيقة التوحيد، وطبقوها في حياتهم كلها، ومن ثم كان لذلك التوحيد أثر عظيم في نفوسهم وفي حياتهم، بل وفي البشرية كلها، لهذا فإن التوحيد الذي نقصده هو التوحيد على منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
فهو -أولاً- يقوم على أسس التوحيد الكبرى، توحيد الربوبية المقتضي للإيمان والإقرار بأنه لا خالق ولا موجد ولا رازق ولا مدبر لهذا الكون إلا هو تبارك وتعالى، فله الخلق، وهو سبحانه وتعالى بيده الرزق، وإليه يرجع الأمر كله، كما قال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} [هود:١٢٣]، أما البشر فلا يملكون من أمورهم شيئاً، فضلاً عن أن يملكوا من أمور غيرهم شيئاً، إذاً: هو توحيد يقوم أولاً على الربوبية.
ويقوم ثانياً على توحيد الأسماء والصفات بإثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأسماء والصفات فيها تعريف وإخبار ووصف للواحد القهار، نتعرف من خلالها على ربنا سبحانه وتعالى؛ لأننا في هذه الدنيا إنما نؤمن بالله وهو غيب، بل هو أعظم الغيب؛ لأننا لم نره ولن نراه في الدنيا، وإنما تكون رؤيته يوم القيامة لأهل الجنة، فأسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين الفضل والرؤية لله سبحانه وتعالى.
لكن نعرف ربنا بأسمائه وصفاته، فنعلم أنه على العرش استوى، وأنه في العلو فوقنا، وأنه مطلع علينا عليم بنا، وأنه قريب منا، وأنه سبحانه وتعالى هو العزيز الحكيم، وهو الغفور الرحيم، وهو شديد العقاب، وهو المتكبر الجبار، وهو السلام المؤمن المهيمن، فهو سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا، نثبت كل ما ثبت في كتاب الله وما صح في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك.
ثم -أيضاً- هو توحيد يقوم على النوع الثالث الأساسي من التوحيد، وهو توحيد الإلهية الذي بعث الله به رسله جميعاً عليهم الصلاة والسلام، أنه لا إله إلا الله، هذه هي كلمة التوحيد، وهي رأس الأمر، وهي التي قامت عليها السماوات والأرض، بها دعا كل نبي، فكان يأتي إلى قومه المشركين يقول لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩]، يا قوم قولوا لا إله إلا الله.
وهذه الكلمة العظيمة هي الكلمة التي ثقلت في السماوات والأرض، وهي الكلمة التي رجحت بالسماوات والأرض حين وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة، فرجحت بهن لا إله إلا الله.
إذاً: هي كلمة التوحيد التي تجعل العبد يتوجه بقلبه في جميع أموره للواحد القهار، يعبده ويدعوه، ويتوجه إليه بجميع أنواع العبادة مخلصاً له سبحانه وتعالى، فهو سبحانه هو الذي يحب، وهو الذي يُرجى، وهو الذي يُدعى، وهو الذي يتوكل عليه وحده، وهو الذي يذبح له وينذر له وحده، وهو الذي يستغاث به في الشدائد ولا يستغاث بغيره.
هذا هو التوحيد، توحيد ينظم العبد في جميع أموره ويربطه بالواحد القهار، فيؤمن به تصديقاً، ويتوجه بقلبه وأعمال جوارحه إليه عبادة وعملاً وطاعة.
ثم أيضاً هو توحيد تنبثق منه طاعة لله سبحانه وتعالى؛ لأن العبادة هي ذل وخضوع للواحد القهار، والذل والخضوع لله تبارك وتعالى لا يمكن أن يتم إلا بالطاعة التامة لله وحده لا شريك له، وتكون طاعته تبارك وتعالى بامتثال شرعه، بأن لا يعبد العبد ربه ولا يطبق في شأن من شئون حياته إلا على مقتضى ما شرعه ربه تبارك وتعالى في كتابه العزيز وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبذلك تكون حياة الموحد من أولها إلى آخرها، في عباداته، وفي معاملاته، وفي أخلاقه، وفي تعامله مع أعدائه، وفي أوضاعه الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والدولية، وكل شأن من شئون الحياة؛ تكون كلها منبثقة من هذا التوحيد العظيم القائم على كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
ولهذا فإن هذا التوحيد ينبثق أول ما ينبثق من إيمان قلبي يستقر في النفس المؤمنة استقراراً مكيناً، فيتحول هذا الإيمان وتلك الأعمال القلبية إلى أعمال الجوارح، ولهذا فإن هذه العبادة تقوم على ثلاثة أسس: الحب لله وحده، والخوف من الله وحده، والرجاء لله وحده.
حب وخوف ورجاء، شبهت بالطائر، فالحب هو الرأس، والخوف هو الجناح الأيمن، والرجاء هو الجناح الأيسر، ويطير الطائر محلقاً في السماء، وكذلك يسير القلب محلقاً إلى ربه سبحانه وتعالى عابداً له خاضعاً له خائفاً منه راجياً، فيتعوذ به منهم ويتعوذ بمعافاته من عقوبته، ويتعوذ برضاه من سخطه، فلا ملجأ منه إلا إليه، يفر من الله ومن العقوبات ويلجأ إلى الله معلناً التوبة منيباً بالطاعات، هذا هو العبد بينه وبين ربه تبارك وتعالى.