[العلامة الثامنة: محبة من أسدى المعروف والنصح]
إن هذه العلامة يا أيها الإخوة! مما ينبغي أن ننتبه لها جميعاً وخاصة طلبة العلم، فإن الإنسان ينبغي له أن يخص من أسدى إليه نصحاً أو أفاده علماً أو توجيهاً أو غير ذلك بنوع محبة صادقة، والذي يحدث أحياناً أن يكون هناك نوع من التدابر أو التباغض؛ بسبب الحسد الذي يوقعه الشيطان بين طلبة العلم، بل أحياناً بين التلميذ والأستاذ، وهذا مما ينبغي أن يراعيه الجميع، فالأستاذ والمعلم ينبغي أن يحب تلاميذه، وإذا ما تفوق تلميذ من تلاميذه فعليه أن يفرح بذلك وألا يغضب؛ لأن له من الأجر مثل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له مثل أجر من تبعه)، فإذا ما علم الأستاذ أن التلميذ هو حسنة من حسناته، وأن له بكل عمل يعمله هذا الإنسان أجراً عند الله سبحانه وتعالى، فإنه والحالة هذه لا يغضب، ولا يأتيه الشيطان ليكدر حاله، وإذا ما تفوق تلميذه فرح له كما يفرح الأب بتفوق ابنه عليه، وكذلك أيضاً بالنسبة للتلميذ مع أستاذه، فالواجب عليه أن يعلم أن أستاذه له فضل عليه، حتى لو لم يفده إلا بكلمة واحدة أو بفائدة واحدة فينبغي أن يحبه من أجل ذلك، وينبغي أن تجمع بين العالم وبين تلاميذه أخوة الإيمان والمحبة في الله رجاء ما عند الله سبحانه وتعالى.
وسوف أضرب مثالاً مما يقع بين الأستاذ والتلميذ من الاحترام والتقدير من سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى: يقول أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة قال: وصلت الفسطاط -والفسطاط مدينة بمصر- فجئت مجلس أبي الفضل الجوزي، فكان مما قاله هذا العالم في درسه: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى -أي: من نسائه-.
قال: فلما خرج اتبعته حتى بلغ منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز وعرفهم غيري؛ فإنه رأى شارة الغربة، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي: أراك غريباً هل لك من كلام؟ قلت: نعم، قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه، فقاموا، فقلت له: حضرت المجلس وسمعتك تقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت، وتقول: وطلق، وصدقت، وتقول: وظاهر من نسائه، ولم يكن ذلك ممكناً، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم.
يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ظاهر من نسائه، ولا قال لواحدة منهن: أنت علي كظهر أمي.
فما الذي فعله هذا الأستاذ مع تلميذه؟ يقول محمد بن القاسم: فضمني إلى صدره وقبل رأسي وقال: أنا تائب من ذلك، جزاك الله من معلم خيراً، قال محمد بن القاسم: ثم انقلبت إليه في درس اليوم التالي، وبكرت إليه، فألفيته قد جلس على المنبر، فلما دخلت الجامع ورآني ناداني بأعلى صوت: مرحباً بمعلمي، افسحوا لمعلمي، قال: فتطاولت الأعناق إلي، وتحدقت الأبصار نحوي، وتعرقني جسمي -أي: أصابني عرق شديد من شدة الحياء- قال: وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعونني حتى بلغت المنبر، وأنا لعظيم الحياء لا أعلم في أي بقعة أنا، والجامع غاص بأهله، وأسال الحياء بدني عرقاً، وأقبل الشيخ على الحاضرين، وقال لهم: أنا معلمكم وهذا معلمي، لما كان بالأمس قلت لكم كذا وكذا، فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي، فأتبعني هذا إلى منزلي وقال لي كذا وكذا.
يقول محمد بن القاسم: وأعاد ما جرى بيني وبينه في مسألة الطلاق والظهار، وقال أمام الحضور: أنا تائب من قولي بالأمس، راجع عنه إلى الحق، فمن سمعه ممن حضر فلا يعود إليه، ومن غاب فليبلغه من حضر، فجزاه الله خيراً، وجعل يحتفل لي في الدعاء والخلق يؤمنون.
تأملوا أيها الإخوة في الله! هذه العلاقة بين التلميذ والمفتي، علاقة تقوي الآصرة بينهما، علاقة عمادها الحب في الله، وعمادها محبة الحق والرجوع إليه، ولو جاء من أي شخص كان، فلا علو ولا ترفع ولا إنكار للحق لأنه جاء من فلان أو فلان، وإنما هو تواضع من الشيخ، وحسن أدب من التلميذ.
وهذا مما ينبغي أن ينتبه له طلبة العلم؛ لأن طلبة العلم والدعاة إلى الله تبارك وتعالى هم القدوة لغيرهم، فعليهم أن يكونوا فيما بينهم وبين الناس متحابين متآخين، إذا ذكر الواحد منهم أخاه ذكره بالخير، وإذا سمع طعناً في عرضه دافع عنه، وبهذا يتأثر بهم الناس؛ لأنهم قدوة لهم، والعكس بالعكس، فإذا رؤي منهم الحسد والكلام في بعضهم ونحو ذلك قال الآخرون من عامة الناس: إذا كان هذا العالم الفلاني، أو طالب العلم الفلاني يقدح ويشتم ويسب في أناس علماء أو فضلاء أو نحو ذلك، فنحن إذا صنعنا ذلك مع أمثالنا فلسنا بأقل منهم.
ومن ثم فإن تحقيق الأخوة في الله مما ينبغي أن ينتبه له الجميع وخاصة طلبة العلم.