للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ردود أهل الكلام على الفلاسفة والباطنية وبطلانها]

سأضرب لكم مثالاً على كيفية معالجة المتكلمين لهذه القضية، فإن أشهر المتكلمين أبو حامد الغزالي وهو من الأشاعرة والصوفية، وأبو حامد الغزالي أيضاً من أشهر العلماء في الرد على الفلاسفة والرد على الباطنية؛ فإن له كتابين من أشهر الكتب: أحدهما اسمه: ((تهافت الفلاسفة)) والثاني اسمه ((فضائح الباطنية)).

أبو حامد الغزالي رحمه الله في أحد كتابيه ينقض على الفلاسفة مذهبهم، وفي الثاني ينقض على الباطنية مذهبهم، والكتابان موجودان مطبوعان، فماذا قال في ((تهافت الفلاسفة)) عن قضية البعث وحشر الأجساد، وهو يرد على هؤلاء الفلاسفة ويبين كفرهم بذلك؟ يقول أبو حامد الغزالي: فإن قيل ما ورد في الشرع -أي: من نصوص المعاد- أمثال ضربت على حد أفهام الخلق، كما أن الوارد من آيات التشريف وأخباره أمثال على حد أفهام الخلق، والصفات الإلهية مقدسة عما يتخيله عوام الناس.

المقصود بآيات التشريف آيات الصفات.

يقول الغزالي: والجواب أن التسوية بينهما تحكم، بل هما يفترقان من وجهين: أحدهما: أن الألفاظ الواردة في التشبيه تحتمل التأويل على عادة العرب في الاستعارة، وما ورد في وصف الجنة والنار وتفصيل تلك الأحوال بلغ مبلغاً لا يحتمل التأويل، فلا يبقى إلا حمل الكلام على التلبيس بتخييل نقيض الحق لمصلحة الخلق؛ وذلك ما يتقدس عنه منصب النبوة.

الثاني: أن أدلة العقول دلت على استحالة المكانة والجهة والصورة ويد جارحة وعين جارحة وإمكان الانتقال والاستقرار على الله سبحانه وتعالى.

ما هذه التي أشار إليها الغزالي؟ إنها صفات الله، يقول: العقول دلت على أن هذه الصفات مستحيلة، فيستحيل أن يكون الله سبحانه وتعالى على العرش استوى، أو أن يكون في العلو، أو أن يكون سبحانه وتعالى له يدان أو أن له عيناً كما ورد بذلك النصوص، أو أنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، إلى غير هذا، فوجب التأويل بأدلة العقول، وأما ما ورد من أمور الآخرة فليس محالاً في قدرة الله تعالى، فيجب إجراؤه على ظاهر الكلام، بل على فحواه الذي هو صريح فيه، هذا جواب أبي حامد الغزالي.

ويقول في كتابه ((فضائح الباطنية)) وهو يرد على الباطنيين الذين يتأولون النصوص: فإن قيل: فهلا سلكتم هذا المسلك في التنزيلات الواردة في صفات الله تعالى من آية الاستواء وحديث النزول ولفظ القدم إلى غير ذلك من أخبار لعلها تزيد على ألف، وأنتم تعلمون أن السلف الصالحين ما كانوا يؤولون هذه الظواهر، بل كانوا يجرونها على الظاهر، ثم إنكم لم تكفروا منكر هذه الظواهر بل اعتقدتم التأويل وصرحتم به؟! انظر إنها عبارات قوية، فماذا يقول أبو حامد الغزالي جواباً على هذا الكلام؟ يقول: قلنا: كيف تستتب هذه الموازنة والقرآن مصرح بأنه ليس كمثله شيء، والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى، ونحن نعلم أنه لو صرح مصرح فيما بين الصحابة بأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان، ولا يماس جسماً، ولا ينفصل عنه بمسافة مقدرة وغير مقدرة، ولا يعرض له انتقال وجيئة وذهاب وحضور وأفول، وأنه يستحيل أن يكون من الآفلين والمتنقلين والمتنكرين إلى غير ذلك من نفس صفات التشبيه لرأوا ذلك عين التوحيد والتنزيه.

ولو أنكر الفلاسفة الحور والقصور والأنهار والأشجار والزبانية والنار لعد ذلك من أنواع الكذب والإنكار، ولا مساواة بين الدرجتين.

خلاصة رد الغزالي: أن نصوص الصفات محتملة، أما نصوص المعاد فهي كثيرة بحيث بلغت مبلغاً لا يحتمل التأويل، ثم إن أدلة العقول عنده أوجبت تأويل نصوص الكتاب، أما نصوص المعاد فلا تؤول؛ لأنها لا تخالف أدلة العقول.

لكن الفلاسفة يقولون: لا فرق بين هذه وهذه، أنت أيها الغزالي قلت: إن النصوص الواردة في الصفات تزيد على ألف نص، فكيف سمحت نفسك بتأويلها ثم كفرتنا لما تأولنا نصوص المعاد؟! ولهذا تجد أن أبا حامد الغزالي عندما رد عليهم رد عليهم بكلام غير ذكي؛ لأن الفيلسوف سيقول له: تلك النصوص أيضاً كان السلف الصالح قبلكم يثبتونها ولا يتأولونها، وكانوا أيضاً لا يتأولون نصوص المعاد فمنهجهم واحد، فأنت أيها المتكلم كيف تأولت هذه النصوص التي تعد بالمئات، ثم منعتنا من تأويل نصوص المعاد؟ ثم سيقول له الفلاسفة: إذا قلت: إنه يستحيل أنه يكون لله صفة كذا وكذا من الصفات الواردة، كذلك أيضاً نحن نقول: يستحيل أن يكون هناك جنة ونار وبعث وغير ذلك، بل نقول: يستحيل أن الله يرى يوم القيامة، وقد قال به إخوانكم المعتزلة.

إذاً: ما هو الغرض من هذا أيها الإخوة؟ الغرض من هذا بيان أن منهاج المتكلمين حماقة في باب التأويل؛ لأنهم تأولوا النصوص تأويلات باطلة بلا شك، فتسلط عليهم الفلاسفة والقرامطة والباطنية وقالوا لهم: لماذا لا نتأول بقية النصوص؟ ولاشك أن صنيع أهل الكلام كان سبباً ظاهراً جلياً في تسلط الفلاسفة على المسلمين.

أما منهاج الحق منهاج أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى فهو يأخذ منهجاً واحداً، سواء تعلقت النصوص بالصفات أو تعلقت بالمعاد أو تعلقت بالأحكام الشرعية، وسواء كانت النصوص من القرآن، أو بما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي نصوص قطعية، ومن ثم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح أثبتوها على منهاج واحد دون تفريق.

إن قضية سلامة المنهج وكونه على وتيرة واحدة بدون تناقض، هي التي تؤدي إلى أن يكون الإنسان فعلاً منصفاً، ويكون كلامه أيضاً مستقيماً لا لبس فيه ولا غلو، فالنصوص واحدة، والله سبحانه وتعالى خاطبنا بما نفهم وبما نستطيع أن نعي، ومن ثم نجد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تلقوا القرآن وتلقوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا يسألون عما يشكل عليهم رضي الله عنهم، ولما كانت هذه حالهم علمنا وأيقنا أنهم أثبتوا تلك النصوص ومدلولها دون أن يخوضوا في تأويل النصوص.