للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب ظهور الحداثيين وأصول مذهبهم]

أيها الإخوة في الله! إن هذه القضية التي أشرت إلى جزء منها أردت منها مدخلاً لقضية قديمة لكنها تتجدد في كل وقت، فنحن ضربنا أمثلة بمنهاج المتكلمين والفلاسفة وكيف تسلط هؤلاء على هؤلاء، وكيف أن المتكلمين صارت أجوبتهم ضعيفة بالنسبة لأدلة وأسئلة أولئك الملاحدة من الفلاسفة وغيرهم؛ لأنهم ورطوا أنفسهم أولاً حيث وقعوا في التأويل ومنعوا غيرهم من التأويل، فقال لهم أولئك: كيف تفرقون بين هذا وهذا والنصوص واحدة وصريحة؟! أقول: إن هذا الذي جرى لم يتوقف على تلك المرحلة التاريخية ونحوها، وإنما امتد إلى عصرنا الحاضر، وذلك بوجود دعوات ومناهج فكرية تنهج نهج هذا التأويل الباطل، وعلى رأس هؤلاء أصحاب الفلسفات الإسلامية الحديثة، ومفكرو الحداثة.

عندما نقول: مفكرو الحداثة، فإننا نتحدث عن الحداثة كفكر، ولا ينفصل الفكر والمضمون عن الأداة والأسلوب وهو الأدب؛ لأن كثيراً من مفكري الحداثة يخدع الناس بالفصل بينهما، يقول لك: الحداثة ما هي إلا شيء جديد يرفض القافية أو يرفض التفعيلة التي وضعها الخليل، وهذا ما فيه شيء؛ لأنها أشكال جديدة في الأدب، ونحن نقول: لو اقتصر الأمر على أن تكون أشكالاً جديدة في الأدب فليس هناك إشكال ولا مشاحة في الاصطلاحات، لكنهم استخدموا هذه المناهج الأدبية بفلسفاتها الأوروبية من دنيوية وفوضوية وعبثية ومادية وغير ذلك؛ استخدموها ليخلطوا بين المضمون وبين الشكل والأداة؛ ليقدموا لنا أدباً حداثياً يحمل فكراً إلحادياً.

ولهذا تجد أن أصحاب هذه الأفكار سواء من يسمون أنفسهم بأصحاب الفكر المستنير أو مفكرو الحداثة أو غيرهم من الذين يتبنون اتجاهات فكرية وعلمانية حديثة، أقول: إن هؤلاء استخدموا ذلك المنهاج الذي استخدمه سلفهم الفلاسفة مع المتكلمين، فقالوا: نحن لا نرفض الدين كدين، وأيضاً لا نأخذ النصوص كنصوص، لكن يجوز لنا أن نتعامل معها كما تتعاملون معها أنتم أيها المسلمون، والنتيجة التي يريدها هؤلاء هي أن الواحد منهم يبحث في التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي وتفسير القرآن وشروح الأحاديث، بل ويبحث في نفس النصوص ويدرسها بأي منهج شرقي أو غربي ويتعامل معها ويتأولها، ومن ثم فلا حرج عليه في ذلك؛ لأن هذه النصوص مقدسة وهو يستخدمها بأي منهج يريد.

وحينما تناقشه فإنه يحتج بالفرق الكلامية ويقول: انظر إلى مناهج المعتزلة لم يجمدوا عند نصوص معينة، وإنما استخدموا عقولهم في دراسة النصوص والأخذ منها، انظر إلى غيرهم من مفكري الإسلام وفلاسفة الإسلام الذين نظروا إلى النصوص باحترام، لكنهم أيضاً عملوا في فهمها ومعانيها، وأبدعوا حتى وصلوا إلى أفكار عجيبة.

وكثير من هؤلاء تعجبه الحركات الباطنية من قرمطية وإسماعيلية وغيرها على أساس أنها ثارت على أصول التراث التقليدي عند أهل السنة والجماعة، ولذا تجد مثلاً ابن سيناء يعتبر عندهم من العظماء، فهو فيلسوف إسلامي تعامل مع النصوص من خلال الفلسفة، كذلك ابن رشد يعتبر عندهم من العظماء وفيلسوف إسلامي تعامل مع النصوص من خلال فلسفته، وكذلك الإسماعيلية عندهم هي فرقة مبدعة، وكذلك القرامطة فرقة ثورية مبدعة فعلاً في المجتمعات الإسلامية.

وكما تلحظون مثلاً مهيار الديلمي شاعر من شعراء الدولة الباطنية الإسماعيلية، وديوانه مطبوع في مجلدين كبيرين.

مهيار الديلمي هذا أستاذ أدباء الحداثة القدماء، وكذلك أستاذ كل خارج عن عقيدة الإسلام وآداب الإسلام وغيره.

إذاً: عندنا هنا فكر حديث ينطلق من خلال مناهج قديمة ويعتمد عليها ويتكئ عليها، والسبب في ذلك أيها الإخوة هو عدم انضباط المنهج، عندما أخذ كثير من المسلمين بمناهج متعددة وتأثروا بالمناهج الغربية والمناهج الكلامية وغيرها نشأت عندهم هذه الانحرافات والتأويلات وغيرها، فصارت مجالاً رحباً ينطلق منه أولئك الملاحدة قديماً وحديثاً.

ولهذا تجد بعضهم يكتب كتاباً في مجلدات تحت عنوان: دراسات عن التراث الإسلامي، ويركز على تلك الفرق المنحرفة ويظهرها على أنها هي الفرق المبدعة في تاريخ الإسلام، ويسخر من السلفية والسلف ومن أهل السنة والجماعة سخرية عجيبة كما كان يسخر من سبق.