[احتجاج الفلاسفة على المتكلمين في التأويل]
تأول الفلاسفة نصوص المعاد على أحد وجهين: إما أن المعاد من الأساس كذب، كما يقول الله سبحانه عن الدهرية: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤]، كيف ذلك؟! قالوا: إنما كذب الأنبياء لأجل إصلاح الناس، فهم يقولون لهم: إن فعلتم كذا فلكم جنان وكذا، حتى تتحسن أخلاقهم، وإلا فلا جنة ولا نار ولا عتاب ولا حساب ولا عقاب، كما يفعل الإنسان مع الطفل أحياناً حينما يعده بمواعيد يعلم أنها لن تتحقق، يريد أن يصلح من حاله الآن.
وقسم آخر من الفلاسفة قالوا: المعاد يكون للروح، أما المعاد الجسماني، والجنان والنعيم، والنساء، والأكل والفواكه والطير وغير ذلك مما هو مذكور تفصيله في كتاب الله، وكذلك أيضاً بالنسبة لعذاب النار؛ هذه كلها لا حقيقة لها، والنعيم ما هو إلا نعيماً نفسياً روحياً فقط، أما المعاد الجسماني فلا، هذا هو قول الفلاسفة.
فرد عليهم أهل السنة والمتكلمون وغيرهم وقالوا لهم: إن تأويل نصوص المعاد كفر وإلحاد بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أصول الأيمان، فمن أنكر حشر الأجسام وأنكر أن الله يبعث الناس يوم القيامة فهو كافر خارج عن دائرة الإسلام، فقال لهم الفلاسفة: ولماذا تكفروننا؟ قالوا: لأنكم تأولتم النصوص الصريحة في كتاب الله، فقالوا لهم: وأنتم أيضاً أيها المتكلمون في باب الصفات تأولتم النصوص الصريحة في كتاب الله.
فلماذا تبيحون لأنفسكم التأويل ولا تبيحون لنا التأويل؟ كما يقول ابن القيم: ألكم على تأويلكم أجران ولنا على تأويلنا وزران تقول الفلاسفة للمتكلمين: إذا كانت نصوص الصفات على غير ظاهرها، كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، وأنتم تؤولونها وتقولون: استوى بمعنى استولى.
وقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:٢٢]، وأنتم تقولون: الذي يأتي هو ملك، وهكذا بقية النصوص تتأولونها على غير ظاهرها، وتأتون لها بتأويلات بعيدة جداً، فنحن أيضاً نأتي إلى نصوص الجنة والنار فنتأولها تأويلات بعيدة جداً.
انتبهتم إلى المأزق الذي أوقع فيه الفلاسفة أهل الكلام؛ لأنهم قالوا لهم: إذا كنتم قد أعملتم في بعض النصوص تأويلاً وأبحتم لأنفسكم ذلك، فلماذا لا تبيحون لنا نحن ذلك؟ ما الفرق بيننا وبينكم؟ إن قلتم: نصوص المعاد صريحة، قلنا لكم: ونصوص الصفات أيضاً صريحة، إن قلتم: يمكن تأويل نصوص الصفات دون المعاد، قلنا لكم: ويمكن تأويل نصوص المعاد أيضاً كما يمكن تأويل نصوص الصفات.
أيها الإخوة! لقد فتح هؤلاء المتكلمون لأولئك الفلاسفة ذلك المدخل والباب المنحرف فتأولوا تلك النصوص، وجاء بعدهم إخوانهم الباطنية والقرامطة فلم يكتفوا بتأويل الصفات، وإنما أولوا نصوص الشريعة كلها، فقال هؤلاء: إن المقصود بالحج هو زيارة الأئمة، وإن المقصود بالصيام هو كتمان أسرار الدعوة، وإن المقصود بقوله: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧] عائشة رضي الله عنها، وأعملوا في نصوص الشريعة تأويلاً منحرفاً باطلاً، فقيل لهم: هذا إلحاد وزندقة وباطل، بل النصوص قاطعة في أن الصلاة والزكاة والحج والصيام ونحوها أمور معروفة في الشريعة الإسلامية، فقال أولئك الباطنية: نحن تأولنا كما تأولتم أيها المتكلمون.
إذا قلتم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] استوى بمعنى استولى، فنحن أيضاً نتأول الصيام، فنقول: إن المقصود بالصيام هو الإمساك عن كشف أسرار الدعوة، وبهذا فتح المتكلمون أيضاً للباطنية والقرامطة باباً دخلوا منه وهو باب التأويل.