[اهتمام أهل السنة والجماعة ببيان الأخلاق وأهميتها]
القضية الثالثة: هي مسألة مدى اهتمام أهل السنة والجماعة في بيان هذه الأخلاق وأهميتها، وهذا جزء أصيل من منهجهم.
فأهل السنة والجماعة -وعلى رأسهم القائد القدوة رسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه من بعده، ثم التابعون لهم- بينوا لنا هذه الأخلاق وشرحوها.
ومن هنا فإن عائشة رضي الله عنها وأرضاها لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتت بكلمة جامعة، ما قالت: كان خلقه الصدق، وخلقه الحياء، وخلقه الشجاعة.
لا، بل أرجعتهم إلى مصدر أصيل في الأخلاق، فقالت: (كان خلقه القرآن) عليه الصلاة والسلام.
إذاً -معنى ذلك أن من أراد أن يبحث عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتمسك بالقرآن فسيجد فيه تفصيلاً لأخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم ليقتد بها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان مثال الخلق الرفيع عليه الصلاة والسلام.
لقد دون أهل العلم وأهل الحديث رحمهم الله تعالى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما دونوه واهتموا به بيان الأخلاق والسلوك.
لقد دونوا العقائد، ودونوا الأحكام الشرعية، ودونوا أيضاً الأخلاق والسلوك وبوبوها وفصلوها، وذكروا فيها الأحاديث والروايات الواردة، وانظر إلى أي كتاب من كتب السنة، فإنك ستجد تلك الأبواب مخصصةً لبيان الفضائل والأخلاق.
فـ البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه كتاب اسمه (كتاب الأدب)، وكتاب اسمه (كتاب الرقائق)، وكتاب اسمه: (الزهد)، بل إنه رحمه الله تعالى ألف كتاباً منفرداً لم يحصره في الصحيح سماه (كتاب الأدب المفرد).
وسمي (المفرد) لأنه أفرد عن صحيح البخاري، وهذا اهتمام منه رحمه الله تعالى بهذه القضية المهمة؛ لأنها أساسية في حياة المؤمن، وفي حياة الداعية، وفي حياة واعي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً الإمام مسلم وأصحاب السنن رحمهم الله تعالى، ومن جمع في هذا الباب سواء على طريقة تبويب الأبواب كـ البخاري ومسلم وأصحاب الكتب الستة، أو على طريقة المسانيد والمعاجم كالإمام أحمد والطبراني وغيرهما فإنهم يذكرون في ثنايا معاجمهم ومسانيدهم الأحاديث الدالة على الفضائل.
وهكذا اهتم العلماء في بيان هذا وألفوا كتباً مفردة في الآداب والزهد والرقائق وغير ذلك، بينوا ما يجب على المؤمن من خلق، ونحن يجب أن نعلم أننا لا نتحدث عن تفاصيل الأخلاق حديثاً مفصلاً، وإنما نذكر كيف كان أهل السنة والجماعة يؤصلون هذه الأخلاق ويبينونها، بل إن ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى -وهو من علماء الحديث المشهورين- جمع أجزاءً حديثيةً تزيد على مائتي جزء، وهذه الأجزاء تجدها في الغالب أحاديث في باب الأخلاق، جزء في باب التواضع، وجزء في باب الصمت، وجزء في باب الصحبة، وجزء في باب الصدق، وجزء في باب التزكية، وهكذا، وجمع فيها بين الأحاديث المرفوعة وبين الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإن كان فيما يرويه من الروايات المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مظنة الضعف ويحتاج إلى تحقيق وتمحيص حديثي.