[الإيمان بعلم الله تعالى السابق المحيط بكل شيء]
المعلم الثاني: هو علم الله تبارك وتعالى الأزلي المحيط بكل شيء، وهذه قضية؛ لأن من كماله سبحانه وتعالى أنه العليم، وأنه متصف بصفة العلم أزلاً قبل أن يخلقنا وقبل أن يخلق السماوات وقبل أن يخلق العرش والكرسي وغير ذلك من المخلوقات؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فمن صفات كماله تبارك وتعالى أنه قد أحاط بكل شيء علماً منذ الأزل.
وعلمه تبارك وتعالى كامل بما كان وما سيكون، بل إنه سبحانه وتعالى علم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وهذا الكمال لله سبحانه وتعالى خاصة، أما الخلق فمهما بلغوا فإنهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله سبحانه وتعالى، وعلم الله سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء وبما كان وما لم يكن لو كان كيف كان يكون يجعل الإنسان يسلم بالقدر الصادق؛ لأن الله علم ما الخلق عاملون.
ولهذا فإن الله تبارك وتعالى علم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما قال تعالى عن الكفار الذين يطلبون العودة إلى الدنيا إذا وقفوا بين يدي ربهم سبحانه وتعالى ورأوا حقائق الأمور، فرأوا انقسام الناس إلى أهل الجنة وأهل النار -أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من أهل الجنة وأن يعيذني وإياكم من النار- إذا رأوا هذه الحقيقة قالوا: يا ربنا! أعدنا إلى الدنيا، فلو أعدتنا إلى الدنيا بعدما عرفنا الحقائق ورأيناها بأم أعيننا لرجعنا وتبنا وعبدناك حق عبادتك.
فماذا قال الله سبحانه وتعالى وهو العليم بهم؟ قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:٢٨]، فهذا ليس تقديراً، وإنما هو خبر وعلم حقيقي بأن هؤلاء لو أعيدوا إلى الدنيا مرة ثانية لعادوا لما نهوا عنه ولعادوا إلى الشرك والكفر بالله سبحانه وتعالى.
لأن الواحد منهم قد يتسلط عليه شيطانه فيما لو عاد إلى الدنيا، فيقول: انظروا! لقد قلنا لكم: إن البعث كذب، ها نحن قد عدنا إلى الدنيا مرة ثانية! ثم يعود إلى كفره وضلاله.
لكن قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:٢٨] حقيقة لا شك فيها.
إذاً علم الله سبحانه وتعال قد أحاط بكل شيء، فما تصنعه أنت -أيها الإنسان- وما تفعله وما يعمله الناس جميعاً وما يقع من أي شيء من شجرة تنبت أو بحر يموج أو سمكة تغوص أو حشرة تمشي أو غير ذلك كل هذا في علم الله تبارك وتعالى الأزلي {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام:٥٩]، فأي ورقة في شجرة في أي مكان من الدنيا في جزيرة أو جبل أو شعب أو فضاء أو غير ذلك إذا سقطت هذه الورقة فإن الله سبحانه وتعالى يعلمها، فكيف لا يعلم بحالك أنت أيها المخلوق المكلف؟! إذاً علم الله الأزلي أحاط بكل شيء، وعلم الله الأزلي يقتضي بقية المراتب الأربع التي هي أسس الإيمان بالقضاء والقدر.
فمراتب القدر أربع: الأولى: العلم.
الثانية: الكتابة.
أي أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة على مقتضى علمه.
الثالثة: المشيئة.
فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الرابعة: الخلق.
أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء.
ومن هنا يتبين ضلال من أراد أن يخرج من قضية القدر مثل المعتزلة وغيرهم بقولهم: إن الإنسان له قدرة مستقلة وله إرادة مستقلة عن الله.
هكذا زعموا أنهم يحلون مشكلة القدر بأن يقولوا: إن الإنسان له إرادة مستقلة، فإذا أراد الله أمراً وأراد المخلوق أمراً فالذي يقع إرادة المخلوق؛ لأن المخلوق هو الذي يريد الطاعات والمعاصي.
ويقولون أيضاً: إن الله لا يخلق أفعال العباد، وإنما الذي يخلق أفعال العباد هم العباد أنفسهم.
فنقول لهم: ماذا تقولون في علم الله؟ فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال كلمة مهمة جداً في هذا الباب، وهي قوله: ناظروا القدرية -يعني المعتزلة- بالعلم، فإن أنكروه كفروا وإن أقروا به خصموا.
هذه العبارة هي التي أردت أن أوضحها هنا في قضية أهمية علم الله سبحانه وتعالى والإيمان به كمعلم بارز من المعالم.
فإننا نقول للقدري المعتزلي الذي يقول: إن الإنسان حر وله إرادة مستقلة نقول له: ماذا تقول في علم الله الأزلي الكامل؟ هل تؤمن به أو لا؟ فماذا سيقول؟ إن أنكره وقال: لا أؤمن بعلم الله الأزلي كفر؛ لأن هذا مذهب الغلاة من القدرية الذين أنكروا العلم فكفرهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وكفرهم أئمة السلف، فهم الذين يقولون: الأمر بالنسبة لله أنُفٌ، أي: لا يعلمه إلا بعد وجوده.
فالمعتزلي إن أنكر العلم كفر، وإن أقر به -وهو أصلاً يقر به؛ لأنَّه يؤمن بالعلم ويؤمن بالكتابة- إن أقر بالعلم خصم، فنقول له: أنت قلت: إن الإنسان له إرادة مستقلة عن إرادة الله، فله أن يفعل هذا أو يفعل هذا.
فنقول لك: علم الله بما سيفعله العبد واحد أو متعدد؟ فسيقول: علم الله واحد.
فهل سيخرج العبد عن علم الله؟ هل سيفعل العبد فعلاً يخالف علم الله؟ فسيقول: لا يفعل العبد فعلاً يخالفه ما في علم الله.
فنقول له: إذاً ما فائدة الحرية التي أعطيتها إياه إذا كان علم الله الأزلي السابق قد أحاط بكل شيء، وإذا كان العبد لم يخرج عما في علم الله سبحانه وتعالى.
لهذا فلا مخرج في قضية القضاء والقدر إلا بالإيمان به على منهج السلف الصالح وإثبات علم الله الأزلي المحيط بكل شيء، إذاً عندنا معلمان بارزان: أولهما: عدل الله وأن الله لا يظلم.
والثاني: علم الله المحيط بكل شيء، وأن كل ما يجري فإنما يجري على وفق علم الله الأزلي.