[فصل ذكر مولده، ومنشئه وهمته العلية في حال صغره وصباه.]
قال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، ثنا أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن شيظم الفامي قدم للحج، أنا نصر بن مكي ببلخ، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه، ولدت بغزة سنة خمسين، يعني: ومائة، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين، قال: وأخبرني غيره عن الشافعي، رضي الله عنه، قال: لم يكن لي مال فكنت أطلب العلم في الحداثة، أذهب إلى الديوان أستوهب منهم الظهور، وأكتب فيها، وقال الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتاب جمعه في آداب الشافعي، رضي الله عنه، ثنا أبي، قال: سمعت عمرو ابن
سواد قال: قال لي الشافعي، رضي الله عنه: ولدت بعسقلان فلما أتى على سنتان حملتني أمي إلى مكة وكانت نهمتي في شيئين، في الرمي وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من العشرة عشرة وسكت عن العلم، فقلت له: أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: أنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب، قال: سمعت محمد بن إدريس، يقول: ولدت باليمن فخافت أمي علي الضيعة، وقالت: الحق بأهلك فتكون مثلهم، فإني أخاف أن يغلب على نسبك، فجهزتني إلى مكة، فقدمتها وأنا ابن عشر، أو شبهها، فصرت إلى نسيب لي، وجعلت أطلب العلم، فيقول لي: لا تعجل بهذا وأقبل على ما ينفعك، فجعلت لذتي في هذا العلم وطلبه حتى رزق الله منه ما رزق.
قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: قوله: باليمن غلط إلا أن يريد به القبيلة وهذا محتمل لكن خلاف الظاهر.
قلت: فهذه ثلاث روايات في بلد مولده، والمشهور أنه ولد بغزة ويحتمل أنها بعسقلان التي هي قريب من غزة ثم حمل إلى مكة صغيرا، ثم انتقلت به أمه إلى اليمن، فلما ترعرع، وقرأ القرآن بعثت به إلى بلد قبيلته مكة فطلب بها الفقه، والله أعلم.
وأما زمان مولده ففي سنة خمسين ومائة بلا نزاع وهو العام الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، ثم قيل: ولد في اليوم الذي توفي فيه أبو حنيفة، ولا يكاد يصح هذا ويتعسر ثبوته جدا، وما يذكره بعض الجهلة من المشغبين من أن الشافعي، رضي الله عنه، مكث حملا في بطن أمه أربع سنين حتى توفي أبو حنيفة، رحمه الله، أو أنه يوم وجد الشافعي توفي أبو حنيفة، فكلام سخيف وليس بصحيح، وقد كان الشافعي، رضي الله عنه، من أكثر الناس تعظيما لأبي حنيفة، رضي الله عنهما ورحمهما.
قال ابن أبي حاتم: حدثني أبو بشر أحمد بن حماد الدولابي في طريق مصر، حدثني أبو بكر بن إدريس وراق الحميدي، عن الشافعي، رضي الله عنه، قال: كنت يتيما في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي من أمي أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، وكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث، أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف فكنت أنظر إلى العظم فأكتب فيه الحديث، أو المسألة، وكانت لنا جرة عظيمة إذا امتلأ العظم طرحته في الجرة، حدثنا محمد بن روح، قال: سمعت الزبير بن سليمان القرشي يذكر عن الشافعي، رضي الله عنه، قال: طلبت هذا الأمر عن خفة
ذات اليد كنت أجالس الناس وأتحفظ ثم اشتهيت أن أدون، وكان منزلنا بمكة بقرب شعب الخيف فكنت آخذ العظام والأكتاف فأكتب فيها حتى امتلأ في دارنا من ذلك حباب، قلت: وكان من عادة العرب الكتابة في العظام العسب واللخاف ورقاع الأدم وغير ذلك لقلة القرطاس عندهم، ولهذا لما كتب زيد بن ثابت، رضي الله عنه، القرآن عن أمر الصديق، رضي الله عنه، كتب عامته من هذه الأشياء.
وقال أبو بكر الخطيب: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن عبد الله الطبري، ثنا أحمد بن عبد الله بن الخضر المعدل، ثنا علي بن محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن إبراهيم الطائي الأقطع، ثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: سمعت الشافعي، رضي الله عنه، يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين، ثم روى الخطيب عن الشافعي، رضي الله عنه، أنه قال: أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغاتها، وحفظت القرآن، فما علمت أنه مر بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه والمراد، ما خلا حرفين أحدهما دساها والآخر نسيه الراوي عنه، قلت: فهذه همة عالية ممن يحفظ الكتاب
والسنة وله من العمر عشر سنين، فرضي الله عنه.
ويقال: إن القبيلة الذين ضوى إليهم الشافعي، رضي الله عنه، هذيل وهم أفصح العرب، قال الحاكم النيسابوري: ثنا أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه، ثنا إبراهيم بن محمود، حدثني أبو سليمان، يعني: داود الأصبهاني، حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: قرأ علي الشافعي، رضي الله عنه، أشعار هذيل حفظا، ثم قال: لا تخبر بهذا أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا، قال مصعب: وكان الشافعي، رضي الله عنه، يسمر مع أبي من أول الليل حتى الصباح ولا ينامان، قال: وكان الشافعي، رضي الله عنه، في ابتداء أمره يطلب الشعر، وأيام الناس، والأدب، ثم أخذ في الفقه بعد، قال: وكان سبب أخذه أنه
كان يسير يوما على دابة له وخلفه كاتب لأبي، فتمثل الشافعي، رضي الله عنه، بيت شعر فقرعه كاتب أبي بسوطه ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت من الفقه؟ فهزه ذلك فقصد لمجالسة الزنجي بن خالد مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس، رحمه الله، وقال ابن أبي حاتم، ثنا الربيع ابن سليمان المرادي، قال: سمعت الحميدي، يقول: سمعت الزنجي بن خالد، يعني: مسلم ابن خالد الزنجي شيخ الشافعي، رضي الله عنه، يقول للشافعي، رضي الله عنهما: أفت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة.
وقال ابن أبي حاتم: وأخبرني أبو محمد ابن بنت الشافعي فيما كتب إلي، قال: سمعت أبا الوليد، يعني: الجارودي، أو عمى، أو أبي، أو كلهم، عن مسلم بن خالد، أنه قال للشافعي، رضي الله عنه، وهو ابن ثماني عشرة سنة: أفت يا أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي، وهكذا روى الخطيب من وجه آخر عن الربيع: سمعت الحميدي يقول: قال مسلم بن خالد الزنجي للشافعي، رضي الله عنه: يا أبا عبد الله أفت الناس، آن لك والله أن تفتي، وهو ابن دون عشرين سنة، قال الخطيب: وهذا هو الصواب، والأول ليس بمستقيم لأن الحميدي يصغر عن إدراك الشافعي، رضي الله عنه، وله تلك السن خمس عشرة سنة.