[فصل في معرفته بالكتاب والسنة، ومتابعته لهما ووقفه عندهما، رضي الله عنه]
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرنا أبو الوليد، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبيدة، قال: كنا نسمع من يونس بن عبد الأعلى تفسير زيد بن أسلم، فقال لنا يونس: كنت أولا أجالس أصحاب التفسير، وأناظر عليه، فكان الشافعي إذا أخذ في التفسير، كأنه شهد التنزيل، وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت أحدا أقدر على معاني القرآن، والعبارة على المعاني، والاستشهاد على ذلك من قول الشعر واللغة منه، رواه ابن عساكر.
وروى البيهقي، عن الحاكم، عن الزبير بن عبد الواحد، عن أبي سعيد: محمد بن عقيل الفاريابي، عن الربيع، أو المزني: إن شيخا سأل الشافعي، رضي الله عنه، عن الحجة في الدين؟ فقال: كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واتفاق الأمة، فقال له الشيخ: من أين قلت: اتفاق الأمة، أمن الكتاب، أو السنة؟ فقال: من كتاب الله، فقال: من أين هذا في كتاب الله تعالى؟ قد أجلتك ثلاثة أيام، فإن جئت بحجة، وإلا تبت إلى الله، فلما كان اليوم الثالث، وجاء الشيخ، تلا عليه الشافعي، قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ١١٥] .
قال الشافعي، رضي الله عنه: لا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض، قال: فقال الشيخ: صدقت، وقام فذهب.
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الماليني، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، حدثنا عبد الله بن وهب، يعني: الدينوري، حدثنا عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي، سمعت الشافعي محمد بن إدريس بمكة، يقول: سلوني ما شئتم أجبكم من كتاب الله ومن سنة رسول الله، قال: فقلت له: أصلحك الله: ما تقول في المحرم يقتل زنبورا؟ فقال: نعم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧] ، وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله، صلى الله
عليه وسلم: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر ".
وحدثنا سفيان، عن مسعر، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه أمر المحرم بقتل الزنبور، ورواها ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الله بن وهب الدينوري بها، وجعل ذلك ببيت المقدس.
واستأنس ابن عساكر لذلك في إيراد الشافعي في تاريخ دمشق، لأنه دخل الشام، وقال: لعله سئل عن ذلك مرتين في الموضعين، والله أعلم.
وقال البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم محمد بن يعقوب، عن الربيع، عن الشافعي، أنه قال: الأصل كتاب الله، أو سنة، أو إجماع الناس، أو قول بعض أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وهذا من أدل الدليل على أن مذهبه: أن قول الصحابي حجة، وهو الذي عول عليه البيهقي وغيره من الأصحاب، وزعم الأكثرون منهم: الشيخ أبو حامد الإسفراييني، أنه رجع عن هذا في الجديد، ورأى فيه أن قول الصحابي ليس بحجة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع، قال: سمعت الشافعي، ودخلت عليه وهو مريض، فذكر ما وضع من كتبه فقال: وددت أن الخلق تعلمه ولا ينسب إلى منه شيء أبدا، وحدثنا أبي: حدثني حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي، يقول: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أوجر عليه، ولا يحمدوني.
وقال البيهقي عن الحاكم: سمعت أبا الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي، يقول: سمعت يحيى بن منصور القاضي، يقول: سمعت أبا بكر محمد ابن إسحاق بن خزيمة، وقلت له: هل تعرف سنة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحلال والحرام، لم يودعها الشافعي في كتابه؟ قال: لا.
قال: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: قال أبو الوليد الفقيه، حدثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني، حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، يقول: سمعت الشافعي، يقول: لولا أن يطول على الناس لوضعت في كل مسألة جزء حجج وبيان.
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا بحر بن نصر الخولاني المصري، قال: قدم الشافعي من الحجاز، فبقى أربع سنين بمصر، ووضع هذه الكتب في أربع سنين، ثم مات.
وكان أقدم معه من الحجاز كتب ابن عيينة، وخرج إلى يحيى بن حسان، فكتب عنه، وأخذ كتبا من أشهب بن عبد العزيز، يقال فيه آثار وكلام من كلام أشهب، وكان يضع الكتب بين يديه، ويصنف الكتب، فإذا ارتفع له كتاب: جاءه كاتب يقال له: ابن هرم فيكتب، ويقرأ عليه البويطي، ويجمع من يحضر ليسمع، فيعلم في كتاب ابن هرم ثم ينسخونه بعد، فكان الربيع على حوائج الشافعي، فربما غاب في حاجة، فيعلم له، فإذا رجع، قرأ الربيع عليه ما فاته.
وقال البويطي: سمعت الشافعي، رضي الله عنه، يقول: لقد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] ، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعت عنه.
وقال البيهقي: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن الأصم، عن الربيع، سمعت الشافعي، يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقولوا بها، ودعوا ما قلته.
وقال البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن الربيع: سمعته يقول.
وقال له رجل: يا أبا عبد الله تأخذ بهذا الحديث؟ فقال: متى رويت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديثا صحيحا، ولم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي، يقول: وذكر نحوه، وقال: سمعته، يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديثا ولم أقل به، رواه البيهقي، عن الحاكم، عن أبي عمرو ابن السماك، عن أبي سعيد الجصاص، عن الربيع.
وقال الحميدي: روى الشافعي يوما حديثا، فقلت: أتأخذ به؟ فقال: أرأيتني خرجت من كنيسة وعلى زنار؟ حتى إذا سمعت من رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديثا لا أقول به! .
وقال ابن أبي حاتم: عن أبي محمد البستي السجستاني، فيما كتب إليه، قال: قال أبو ثور: سمعت الشافعي، يقول: كل حديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهو: قولي، وإن لم تسمعوه مني، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: سمعت حرملة بن يحيى، يقول: قال الشافعي: كل ما قلت فكان عن النبي، صلى الله عليه وسلم، خلاف قولي مما يصح، فحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أولى فلا تقلدوني.
وقال القاضي أبو عمر البسطامي: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن الجارود: سمعت المزني، يقول: سمعت الشافعي، يقول: إذا وجدتم سنة، فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد.
وعن البويطي، قال: سئل الشافعي: كم أصول الأحكام؟ قال خمس مائة، فقيل له: كم أصول السنن؟ قال: خمس مائة.
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: قال الشافعي: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيا كان، أو بصريا، أو شاميا، رواه الخطيب البغدادي، عن الحافظ أبي نعيم الأصبهاني، عن أبي القاسم الطبراني، قال: سمعت عبد الله بن أحمد يذكره عن أبيه.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل، فيما كتب إلي، قال: قال أبي: قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحا، فأعلموني، كوفيا كان، أو بصريا، أو شاميا، حتى أذهب إليه، إذا كان صحيحا، ورواه البيهقي من غير وجه عن عبد الله بن أحمد يذكره، ثم قال: وإنما أراد حديث أهل العراق، لأن المتقدمين من أهل الحجاز كانوا لا يفكرون في رواية أهل العراق، ولا يأخذون بها، لما بلغهم من مساهلة بعضهم في الرواية، فلما قام لعلم حديثهم، ومعرفة رواية حفاظهم، وميزوا صحيح الحديث من سقيمه، أخذ الشافعي بما صح من ذلك.
وكان أحمد بن حنبل من أهل العراق، وكان قد عرف من أحوال رواتهم، ما عساه يخفي على علماء الحجاز في ذلك، فرجع الشافعي إليه في معرفة أحوال رواة الحديث من أهل العراق، ثم كان الشافعي أعرف منه بأحوال رواة الحجاز وذلك بين في مذاكرتهما، انتهى كلامه.