للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا بيت لو غار منه النعمان لأصاب، على ما فيه من ظاهر رقة وبراءة. وأحسبه هو، دون سواه الذي أحفظ المنخل اليشكري. إذ هذه النظرة التي يصفها النابغة نظرة «أحوى أحم المقلتين»، عميقة في معنى الاشتهاء والحرمان. اشتهاء الشاعر وحرمانه، ثم اشتهاء هاته التي تنظر إليه وحرمانها. وإذن فكأن هذه الثيب الفاتنة المفتونة التي يجلوها النعمان، بكر -صفراء كالسيراء- «كبكر المقاناة البياض بصفرة» تلك التي نعتها امرؤ القيس.

وقال النابغة «بحاجة لم تقضها» فنص على معنى ما كنا فيه وفسر قوله آنفًا «أحم المقلتين» وسيفسر بعد قوله «أحوى». ولا يخفى أن هذه الحاجة في نفسه هو كما في نفسها، فتم ذرءٌ من تجاوب. ومن نحو هذا تكون الغيرة كما لا يخفى. وقوله «نظر السقيم إلى وجود العود» تفريع من المعنى، وزيادة تبيين وإطناب. ثم فيه كناية مذهلة. وذلك أن كل هذا البريق وكل هذا الإشعاع لا يتصور معه السقم وإنما يتصور كمال الصحة والعنفوان.

ولكن المتجردة في بهائها وفتنتها، حين يجلوها مثل مالكها الدميم الكز الخلقة المتهتك، بائسة حبيسة سقيمة، والنابغة إذ جيء به ليشاهدها كيما يخلد صورة حسنها، كأنما هو عائد أو عُواد- وقد فطن هو لمعنى ما نظرت به من نظرتها. والرثاء الذي استجاب به إلى ذلك المعنى تنضح عبراته من أثناء هذا التشبيه كما ترى.

والفرق بين ما صنعه «مانيه» وما صنعه النابغة أن مانيه جسد السقم النفساني، سقم الاشتهاء واللوعة. فجعل متجردته المستلقية كلها ضاوية مضناه بادية المرض في عينيها إعياء كالسأم الذي لا يبالي. والنابغة جعلها متربية تامة الخلق ريا، وحصر السقم كله في العينين وفي الفم كما سترى.

ثم كما أحاط النابغة رائعته القائمة بالألق والبريق، أحاط «مانيه» سقيمته بالسواد الشبحيّ الدامس، حتى أن العقد نفسه خرقة رباط سوداء.

<<  <  ج: ص:  >  >>