للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا، وكما كنى النابغة بذكر النظرة والحاجة والسقيم والعود، عن حاجة الفتاة وحرمانها وعن دخيل اشتهاء في نفسه أيضًا على النحو الذي قدمنا، صار كما ترى، في هذا التشبيه، بالذي كان ذكره من بريق الذهب وشعاع الشمس وانسطاع الدهشة من سقوط النصيف- صار بكل ذلك إلى ضوء أخفت، ضوء الدرة الصدفية البكر التي يطلبها الغواص، ثم إذا وجدها أهل وسجد. وهذا كما لا يخفى معنى مستكن في نظرة السقيم. وهو بعد ملائم ما سيلي من مغاص النعت الذي سيغوصه وخفاء سبيله ومداخله وشدة ما يخالطه من حرج.

تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ ... بردًا أسف لثاته بالإثمد

وهذا تأويل قوله آنفًا «أحوى» يعني صفة الفم.

وقد مر بنا الاستشهاد بهذا البيت في باب الحمام وباب الأثافي. والشفتان اللتان تشبهان قادمتي الحمامة مفعمتان مشتهيتان مشتهاتان ملتاعتان بلا ريب. وقد قابل النابغة هذا الشكو المثقل بحركة القادمتين وبهجتها تحكيان افترار البسمة. وفي هذا كما ترى بقية من ضوء ألق الذهب وشعاع الشمس وبرق الدهشة ولمع الدرة الصدفية، وآخره منتهاه عند ظلم الثنايا اللواتي استعار لهن البرد. ثم يصير الشاعر إلى إسفاف اللثات الأثمد الأدكن، أشبه شيء بهذا الشكو في الشفتين والسقم في العينين.

كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي

والأقحوان إعادة لمعنى ضوء البرد. والتشبيه جيد إذ فيه تنبيه على ألق الندى وثقله على المتفتح من أكمام الأقحوان. وفي العودة والتكرار لضوء البرد بالذي ذكره من ألق الندى على الأقحوان المثقل، كالوقفة عند هذه البقية الأخيرة التي بقيت من باهر ذلك الشعاع، الذي كان يعيشه، وكالاستراحة يستريحها عند هذه البقية، قبل أن يقدم ليبصر غير أعشى في ظلام دامس.

<<  <  ج: ص:  >  >>