للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد مهد للظلام بهذا الذي يذكره من جفاف الأعالي وندى الأسافل، جفاف ظاهر ألق الأسنان مع حوة الشفتين، وندى الثات التي عليها الأثمد. وقد سبق أن فصلنا جانبًا من هذا المعنى بمعرض الحديث عن الأثافي إذ ذكرنا أن الشماح لم يخل من نظر إلى النابغة حين قال:

أقامت على ربعيهما جارتا صفًا ... كميتا الأعالي، جونتا مصطلاهما

وقد سمج أحد السخفاء فضمن بيت النابغة هجاء رجل يدى جعفرًا وتماجن في سماجته فقال:

يا سائلي عن جعفرٍ عهدي به ... رطب العجان وكفه كالجلمد

كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي

وسنعرض لأمثال هذا في باب البديع إن شاء الله

هذا وإذا قد استراح النابغة وشعر أنه مقدم بعد الضوء الأخاذ على ظلام، أعفى بصره شيئًا، وجعل مكانه أذنيه:

زعم الهمام بأن فاها باردٌ ... عذبٌ مقبله شهي المورد

فقد اختفت صورة المتجردة وتمثالها كل الاختفاء كما ترى، ولم يبق إلا صوت الهمام، وحكاية قصة يقصها. والشاعر بهذا الصوت الدخيل وبهذه القصة المقحمة، يخادعنا أنه لا يرى ولا ينظر فيشتهي. ولا يغيب عنك أنه ذاك فعل. فهذا مكان تقية ومحاذرة كما ترى.

زعم الهمام ولم أذقه أنه ... عذبٌ إذا ما ذقته قلت ازدد

وهذا مبالغة في إسباغ الظلمة، ونفي لما عسى أن يحس من حسيس إيحاء بالنظر في البيت السابق. تأمل قوله «لم أذقه». ومستبين لديك أنه كالمبادرة من

<<  <  ج: ص:  >  >>