للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن عجب أمر الأعشى أن هذه القصيدة في أولها من ضروب التأمل ما يقع في رثاء «الأينيات» - نعني الكلمات التي يشار فيها إلى هلاك الغابرات من الأمم:

إن القرى يومًا ستهـ ... ـلك قبل حقٌ عذابها

وتصير بعد عمارة ... يومًا لأمر خرابها

أو لن ترى في الزبر بيـ ... ـنة بحسن كتابها

ولا يروعنك بعد شبه ما ههنا بالتذكير القرآني فتعجل إلى أنه منتحل، فقد هلك الأعشى بعد الهجرة بزمان، وقد تلي القرآن وحفظ وشاع ذكره في العرب منذ أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وذلك قبل هلاك الأعشى، (وإنما هلك بعد عام الحديبية)، بقريب من عشرين عامًا. والشعراء أسرق شيء للكلام. قال الجاحظ، هو شيخ النقاد ومرجع أكثر كلامهم، في الجزء الثالث من كتاب الحيوان:

«ولا يعلم شاعرٌ تقدم في تشبيه مصيب تام، وفي معني غريبٍ عجيب أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلا وكل من جاء من الشعراء بعده أو معه إن هو لم يعد على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى ويجعل نفسه شريكًا فيه، كالمعنى الذي تنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحدٌ منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه، أو لعله أن يجحد أنه سمع بذلك المعنى قط وقال إنه خطر على بالي من غير سماع كما خطر على بال الأول، هذا إذا قرعوه به- أ. هـ.». قلت ولهذا المعنى حرصت قريش ومن شايعها على الشرك أول الأمر على أن يسموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر فيغرقوا موضعه في غمرة الشعراء، وذلك قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}.

ليس الأعشى ببدعٍ من الشعراء. وكان مع أهل الشرك حتى فلج الإسلام، فما جاء من كلامه وفيه معاني القرآن فمن ثم أخذ. وقل مثل ذلك في لبيد قبل إسلامه. وفي جماعة ممن شهد أوائل الإسلام زمنًا يمكنهم من الأخذ من القرآن. وقد علموا أنه

<<  <  ج: ص:  >  >>