ولقد عجب ابن الأثير في آخر المثل السائر من شهنامة وأن العرب لا تطيل جر الأخبار والحكايات كما تصنع العجم. وقد اعتذر الشيخ عبد الحي الكتاني رحمه الله في التراتيب الإدارية عن هذا بما طوله المطولون من نظم السيرة، والحق أن العرب قد طولت الأراجيز كما في ذات الأمثال لأبي العتاهية وكنظم كليلة ودمنة لأبان بن عبد الحميد. ولكن لم يكن عندها جر الأخبار والحكايات كما نبه على ذلك ابن رشيق بداخل حقًا في حيز الشعر. لأن الشعر إنما وضع للغناء والترنم.
وقد أطال المحدثون مدح الملوك وأولي الجاه يبتغون احتلاب أخلاف الدر البكئ. على أن هذا من صنيعهم كأنما أراده المولى عز وجل تمهيدًا وتمحيصًا وتوطئة لهذا الإبداع الذي جاء به مداح الرسول عليه الصلاة والسلام من بعد وخاصة البوصيري. وذلك أن إطالة ابن الرومي ومن نحا نحوه كمهيار وغيره روضت القوافي والمعاني على أساليب المدح ومحاولات الإطراب بالبديع والافتنان في الصياغات البيانية. فلما جاء المحبون مادحو خير الورى صلوات الله عليه وسلامه، أصابوا المادة الخصبة من طرق القول ومناحيه، ووفقهم توفيق الله سبحانه وتعالى بما وهبوا من ملكة القريض والغناء والمقدرة على الإطراب وبما ضمنته قلوبهم من نشوات إلى أن يفتنوا في الإطالة ويتيسر لهم مع ذلك أن يجيدوا بلا إعياء ولا كلال ولا ملال. ومن شاء أن يوازن بين صنيع البوصيري هنا وفي طواله وصنيع المجيدين من مداح الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ملحميات أصحاب الملاحم من يونان مثلًا ودرامياتهم فعل، فأبيات الهمزية ثلاثمائة وستة وسبعون والبيت العربي يساوي سطرين من شعر يونان على أقل تقدير، قياسًا على ما نقل إلينا من ترجمة دقيقة، فهذه نحو من ثمانمائة وليست أبيات بعض الدرامة والملاحم بزائدة على ذلك بكثير.
غير أنا لا نعد «الهمزية» والبردة وإلى متى أنت «وجاء المسيح» من باب الملاحم، إذ هن من باب قصيد العرب، وهو فنهم الذي امتازوا به وخصوا. وقد رأيت أنه لا شعر سواه بالغًا مبلغه عند الجاحظ وهدك من ناقد.
ولله در البوصيري إذ لخص معنى الإطراب والطرب والنشوة والإخلاص بصدق الشعر في قوله:
غير أني ظمآن وجد وما لي ... بقليل من الورود ارتواء