للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بيكاس جرد أشكالاً حقيقته ... لم يخفها بين أظلال وأضواء (١)

يرنو ويخرج في عينيه من أبد ... كالموميات بألوان وأصداء

كم شف نفسًا كساها لحم لذته ... بها يعود إلى بوح وإفضاء

إن كانت اللغة الفصحى فهل سمعت ... سحر الطبيعة في صمت وإيماء

ضحكت منطلق الأنفاس مبتهجًا ... مع الحياة أحبتني وأهوائي

سكرت حبًا على صحو يلازمني ... في ظلمة الخمر حب غير نساء

أصارع الشعر كي تبدو حقيقته ... فيها حقيقة ميلادي وإنشائي

قيد بنفسي لا أنفط أضربه ... حتى أسالم في جنبي أعدائي

نشأت في اللغة الفصحى مقدسة ... حتى اكتهلت وما فارقت صحرائي

أتعرف العرب الأمجاد في بلد ... فيه تحطم معراجي وإسرائي

نسج هذه القصدة متين محكم، وقال شاعرنا يخاطب نفسه بثورة العصر على قيود اللغة وإعرابها «ولا تبال بأفعال وأسماء» وقد بالى هو بذلك فقوله «أشتاق صوتي» أدق تعبيرًا مما لو قال «أشتاق صوتي» أدق تعبيرًا مما لو قال «أشتاق إلى صوتي» وكلا الوجهين صحيح والتمييز بين الصحيحين أدخل في ملكة البيان. ولله المثل الأعلى، حاء بالفعلين مضارعًا وماضيًا في سورة الكهف (اسطاع واستطاع) قال تعالى: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا} وهذا يتضمن معنى إشارة الخضر عليه السلام إلى ما كان من عجلة موسى عليه السلام- لم تسطع تتضمن معنى العجلة عن تريث للصبر حتى يتبين ما هناك. وقال تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا} فالظهور ومحاولة الصعود في ذلك تعجل يتضمنه معنى التعبير بـ (اسطاعوا) والنقب وما فيه من أداة وعمل فيه بطء يتضمنه معنى التعبير بـ (استطاعوا) - والله تعالى أعلم نعوذ به أن نقول في كتابة بما لا نعلم.

وقال شاعرنا «وعن قواف تحاكي عي فأفاء» يعتذر عن التزامه القافية وكأن تكرار الروى برتابته فيها فأفأة من غير فصيح اللسان. وهذا النعت صحيح حيث تكون القافية مغتصبة متكلفة وإيقاع الشعر غير رنان. وهنا تواضع به كالمعتذر للخليل أن نظامه المحكم نعجز عنه الآن ونضعف عنه. سمى الوزن بحرًا لأنه عنده ذو سعة ممتدة النغم، ونحن إنما ندركه الآن بتضييق مجاله في حدود وصفنا له بالأوتاد


(١) أي بيكاسو الفنان المعروف.

<<  <  ج: ص:  >  >>