الآية السابقة، فلا تكتمل في معانيها ومقاصدها إلا بتعلقها بالآية التي بعدها، وهذا لا يناسب إذا كان يمكن حملها على التمام بمفردها والاستقلال عن غيرها.
كما أنه لا يناسب في نظم الكلام وتسلسله أن يكون مُتعلَّق لام التعليل بعيدًا، بحيث يفصل بين المعلول وعلته عدة جُمل، وهذا ما أشار إلى السمين الحلبي بطول الفصل بين العامل والمعمول.
وبهذا يتبين ضعف دليل هذا القول، وقوة الدليل في القول الآخر، فهو المتوافق مع الروايات التي تحكي ما جرى في غزوة أُحد، وهو الظاهر المتبادر للذهن بجعل لام التعليل متعلقة بالمذكور المجاور لها، وهو قوله:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}.
إذا تبيَّن بأن هذا هو الظاهر فإنه يمكن أن يقال بأن ظهوره سيكون أكمل إذا جعلنا (لا) زائدة، فإننا بذلك لا نحتاج إلى تكلُّفٍ في التأويل، أو تجوُّزٍ في التعبير، ويمكن الإجابة عن هذا من أربعة وجوه:
الأول: أن جعل (لا) زائدة لا يناسب من حيث المعنى، فإنه ولو كان المعنى فيه بسيطًا لا تكلُّف فيه إلا أنه لا يليق الحمل عليه، لأنه بذلك يكون الله سبحانه أراد بعباده الحزن، ولو قيل بأنه عقوبة فإن هذا لا يستقيم؛ كيف وقد قال سبحانه في سياق الآيات التي نزلت في هذه السورة:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١٣٩ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}[آل عمران: ١٣٩ - ١٤٠]، فهو تبارك وتعالى يواسيهم فيما أصابهم في هذه الغزوة، ويسليهم لكيلا يحزنوا، فكيف يقال إنه سبحانه هو الذي أراد الحزن بهم وهو الذي نهاهم عنه (١)؟!
والسياق يدل على أن الله أراد بهم خيرًا من بعد ذلك الغم ولم يُرِد بهم عقوبة، كما قال تعالى في الآية بعدها:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ}[آل عمران: ١٥٤]، فجعل لهم ما يؤَمِّنهم ويطمئنهم من بعد ذلك الغم، ولو أراد بهم عقوبةً لم يكن لهم ذلك.
الثاني: أن من قواعد الترجيح أن "إعمال الكلام أولى من إهماله"، وأنه "إذا دار الأمر بين
(١) أشار لأصل هذا المعنى الشيخ العثيمين في تفسيره لسورة آل عمران (٢/ ٣٢٢، ٣٢٥)، وهي إفادةٌ لم يُسبَق إليها.