للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عنهم بعد هذا كله يدل على أنهم وقعوا في ذنب.

[٥) النتيجة]

الراجح أن المراد بالذين تولوا في قوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أنهم نفرٌ قليل من الصحابة رضوان الله عليهم؛ تولوا عن ميدان المعركة ولم يرجعوا إليه، وأن الفعل الذي فعلوه معصيةٌ عفا الله عنها، وهو ذنبٌ لا ينقص من قدرهم، ولا يخفض من مكانتهم، لأن الله قد عفا عنه، ولهذا لمَّا ذكر أحد الصحابة هذا الذنب لعثمان بن عفان رضي الله عنه، وأنه قد فرَّ يوم أُحد، أجاب رضي الله عنه بقوله: "كيف يعيرني بذنبٍ وقد عفا الله عنه" (١).

هذا، وقد دلت الآية على جلالة قدر هؤلاء الذين عفا الله عنهم، وذلك من تسعة وجوه:

الأول: أن الله ذكر فعلهم بعينه دون أن يحمِّله أوصافًا سيئة خارجةً عنه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، فذكر أنهم تولوا ولم يذكر أنهم فشِلوا أو تخاذلوا، وفي تقرير ذنبهم بهذه الحقيقة إشارةٌ إلى أنهم لم يتلبسوا بهذه الأوصاف السيئة.

الثاني: قوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ}، ففعلهم لا يعدو أن يكون زلة، والزلة إنما تكون عن غير قصد (٢)، فهم لم يقصدوا التولي وخذلان إخوانهم المؤمنين، بل وقع ذلك منهم زللًا مخالفًا لما كانوا عليه من نصرة الدين والجهاد في سبيل الله.

الثالث: قوله: {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ}، فالشيطان هو الذي أزلَّهم وأوقعهم في الخطأ، فليست الزلة ناتجة عن كثرة تقصيرٍ أو سوء تقدير، بل هي محصورة في أنها من وسوسة الشيطان وإزلاله، ومَن يسلم من ذلك؟! بل هذا عين ما وقع للأبوين، والمذكور في الآية هنا يشبه ما ذُكر في شأنهما، فقد ذكر الله أن الشيطان أزلَّهما وذكر توبته وعفوه عنهما، وهؤلاء كذلك، ومَن شابه أباه فما ظلم.

الرابع: أن الله صرَّح بعفوه عنهم، ولم يجعله خفيًّا، بخلاف غيرهم من المذنبين التائبين ممن بعدهم، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم؛ إذ لا علم لهم بعفو الله عنهم (٣)، ولهذا لمَّا ذُكر عند ابن عمر رضي الله عنهما أن عثمان بن عفان فرَّ يوم أُحد قال: "أشهد أن الله عفا


(١) رواه أحمد في مسنده (١/ ٥٢٥/ ٤٩٠).
(٢) ينظر في المفردات للراغب الأصفهاني (ص: ٣٨١).
(٣) ينظر في تفسير القرطبي (٤/ ٢٤٥).

<<  <   >  >>