للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويمكن أن يستدل لقوة القول الذي ذكره ابن عطية بأن السياق أفاد أن الحياة حقيقية، وعليه فلا يتصور أن يكون (عند) يفيد القرب المعنوي، بل يكون في القُرب الحقيقي، فيُضاف إليه محذوف يصرفه عن معناه.

وأما من نفى أن تكون حياة الشهداء حقيقة، فإنه ينفي أن يكون القُرب حقيقيًّا تبعًا لذلك، ويحمل معنى الحياة في الآية على معنى الحياة في قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: ١٢٢]؛ قالوا: فالمراد بحياة الشهداء حياة الطاعة والهدى (١).

[٣) أدلة القول الثاني في المسألة]

يدل على أن قوله {عِنْدَ رَبِّهِمْ} يفيد القرب الحقيقي من الله سبحانه دليلان:

الأول: أن هذا هو ظاهر اللفظ السالم من الحذف والتجوُّز، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، فلا يُصرف عنه إلا بقرينة.

الثاني: ما ثبت في السنة، فقد جاء في سبب نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمَّا أُصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ تَرِد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ معلَّقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومَقِيلِهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنَّا أنا أحياء في الجنة نُرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم، قال: فأنزل الله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} إلى آخر الآيات (٢).

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسَّر الآية بهذا المعنى، فقد سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك، فقال (٣): (أرواحهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديل معلَّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك


(١) ينظر في تفسير الماوردي (١/ ٢٠٩).
(٢) رواه أبو داود في سننه (٣/ ١٥/ ٢٥٢٠)، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (٧/ ٢٧٩).
(٣) يعني النبي عليه الصلاة والسلام؛ ينظر في شرح النووي لمسلم (١٣/ ٣١)، وتهذيب السنن لابن القيم (٢/ ٢١٥).

<<  <   >  >>