للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما ذكره السمين الحلبي في الدر المصون من أن القصة تدل على هذا القول يمكن أن يرجع إلى هذا المعنى بأن الآية تحكي حالًا قد وقعت فيُحمل الفعل فيها على ما يدل على وقوعه، والله أعلم.

[٤) الموازنة بين الأدلة]

قد سبق التنبيه إلى قاعدة الترجيح: "إذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى"، فالأولى أن تبقى صيغة (استفعل) على ما وُضعت له في الأصل وهو معنى الطلب، لكن يُنظر في الاعتراض الذي ذكره أبو حيان على معنى الطلب، فإنه قد يُخرج الصيغة عن أصلها، وأيضًا فإنه وإن كان الأصل في صيغة (استفعل) أنها للطلب إلا أن وجود (استفعل) بمعنى (أفعل) كثيرٌ في القرآن (١)، فلا يَبعُد أن تكون هذه الآية منه.

وأما ما ذكره ابن عطية من أن معنى الطلب هو مقتضى وسوسة الشيطان وتخويفه فهذا لا ينافي الحمل على معنى (أزلهم)، لأن الذين قالوا بهذا المعنى لا يقصدون أن ذلك كله من عمل الشيطان، بمعنى أن الشيطان تسلَّط عليهم وأنفذ فعله فيهم، بل ذكروا أن معنى {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ}: أزلَّهم بوسوسته (٢)، فهو كالمكيدة منه، لكن معنى الطلب أدلُّ على وسوسة الشيطان وتخويفه.

وأما ما ذكره أبو حيان أنه لا يلزم من طلب الزلل إفادةُ وقوعه، فذلك لأن الآية فيها عتابٌ لهم على أمرٍ وقعوا فيه، كما أن فيها بيان السبب الذي أدى إلى تولِّيهم وهو استزلال الشيطان إياهم، فإذا قلنا إن المراد بالآية أنهم تولَّوا لأن الشيطان وسوس لهم وسعى في تخويفهم كأنه يطلب الزلة منهم لم يكن التعليل تامًّا، لأنهم قد يخالفون الشيطان فلا يقعون في الزلل، وأيضًا فإنه لا يصح عتابهم على مجرد أن الشيطان كان يوسوس لهم ويسعى في تخويفهم، فهذا أمرٌ لا يملكونه، فلا يكتمل التعليل ولا يصح العتاب إلا أن يُقدَّر في الكلام أنهم وقعوا في الزلة التي كان الشيطان يطلبها، وعدمُ التقدير أولى من التقدير.

وأيضًا، فإن قوله تعالى {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} يدل على وقوع الزلل منهم ويبيِّن سببه؛ أنه زللٌ واقع بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب، وهو أحسن من أن يقال إن الشيطان وسوس لهم


(١) ينظر في دراسات لأسلوب القرآن لمحمد عبد الخالق عضيمة (٤/ ٦٥٦).
(٢) ينظر في تفسير الجلالين (ص: ٨٨).

<<  <   >  >>