للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عما يتبادر إلى الذهن من الآية، وهي وإن ظهر حسنها في تفخيم الرحمة والتعظيم من شأنها إلا أن النقص يظهر في الإخلال بوجه (ما) في الآية، فما الداعي لتنكيرها أو الاستفهام بها؟

والآية في مقام الامتنان بالرحمة، والمناسب لهذا المقام هو البيان والتأكيد، مع رعاية أن الجملة في ذلك قصيرة لا تحتمل ما يُحتاج إليه في تنكير (ما) أو الاستفهام بها من البسط والتفصيل.

هذا من حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فإن الخطأ ظاهرٌ في جعل (ما) استفهامية كما بيَّن ذلك أبو حيان في كلامه الذي سبق، وتبعه السمين الحلبي وزاد في تفصيل الرد على هذا القول، وقد أجاب ابن هشام عن هذا القول بأزيد مما ذكراه هنا، وذكر هو والقرطبي من قبله أن (ما) في الآية لو كانت استفهامية لكان لفظها بغير أَلِف (فبمَ)، لأن (ما) الاستفهامية يجب حذف الألف منها إذا كانت مجرورة، وذلك لأجل التفريق بينها وبين الخبر، ولم تثبت الألف في ذلك إلا شذوذًا لا يُحمل القرآن عليه (١).

بقي أن يشار إلى البلاغة في جعل (ما) زائدة في الآية، وما وجه التأكيد في ذلك، لئلا يُتوهم أنها ساقطة لا جدوى منها، وإذا كان يُعاب التكلف في جعلها نكرة أو استفهامية، فينبغي ذكر وجهٍ ظاهر في دلالتها على التأكيد، وحسنها في الكلام، وإلا لم يتعين الحمل عليها.

ذكر الزمخشري وغيره وجه البلاغة فيها (٢)، وذلك أن تقديم الجار والمجرور على الفعل في الآية يفيد الحصر، لكن لا يتعين من تقديم الجار والمجرور إفادة الحصر دائمًا، بل قد يكون للاهتمام من غير إرادة الحصر (٣)، فجاءت (ما) زائدةً بين الجار والمجرور لتؤكد الحصر وتنبه على أن لينه عليه الصلاة والسلام للصحابة بعد أن كان منهم ما كان في غزوة أُحد، أن ذلك ما كان إلا برحمة من الله، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ١٠٧]، فبرحمته سبحانه ألان رسوله لهم، وبرحمته سبحانه عفا عنهم وغفر لهم.


(١) ينظر في تفسير القرطبي (٤/ ٢٤٨)، ومغني اللبيب لابن هشام (ص: ٣٩٣ - ٣٩٥)، وينظر في موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب لخالد الأزهري (ص: ١٧٠ - ١٧٢).
(٢) ينظر في الكشاف للزمخشري (١/ ٤٣١)، وتفسير البيضاوي (٢/ ٤٥)، وحاشية القونوي على تفسير البيضاوي (٦/ ٣٨١)، وموسوعة الأعمال الكاملة لمحمد الخضر حسين (١/ ٣٨٩).
(٣) ينظر في معاني النحو للدكتور فاضل السامرائي (٣/ ١٠٥ - ١٠٧).

<<  <   >  >>