للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الذي غله يوم القيامة، ثم يُعذِّب بعد ذلك بالعذاب المذكور في الحديث والأثر، فالمقصود بالقول الأول إثباتُ أن الغال يأتي بعين الشيء الذي غله يوم القيامة، والحديث والأثر لا ينفيان هذا الأمر.

ومما يُشكل على القول الأول ما ذكره بعضهم من قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: ٩٤]، فهذه الآية تدل على أنهم يأتون منفردين لا شيء معهم، وأنهم يتركون ما كانوا متمكنين منه في الدنيا من الأموال، وعليه فلا يحملون الغلول معهم، بل يأتون منفردين عنه، ويكون المراد بالآية أنهم يأتون بإثمه (١).

والظاهر أن المراد بقوله {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} أنهم يأتون للبعث حفاة عراة غُرلا، ولذلك قال بعدها: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وفي هذه الهيئة تبكيت لمن ينكر البعث، كما قال تعالى: {وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدا} [الكهف: ٤٨]، ولا ينافي هذا أن الغال يأتي بما غله إلزامًا له كذلك، لأنه قد أخفاه في الدنيا فظهرت فضيحته في الآخرة.

ثم المراد بقوله {وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} هو أن ما كانوا مخوَّلين فيه في الدنيا ينتفي عنهم في الآخرة فلا يتمكنون منه، فلا يكون لهم ملك ولا قوة يستنصرون بها في ذلك اليوم، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ٩ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: ٩ - ١٠]، ولا ينافي هذا أن الغال يأتي بما غله، لأن ما غله ليس مُلكًا له في الأصل، وليس له فيه قوة، بل هو إذلالٌ له وفضيحة.

ويبعد أن يكون المراد بالآية هنا أن الغال يأتي بإثم ما غله، لأن الآية قد دل ظاهرها على أن الغال يأتي بالشيء الذي غله حقيقةً، وفي ابتغاء غير هذا المعنى حملٌ للكلام على غير ظاهره، وعدولٌ عن الحقيقة إلى المجاز، والقاعدة أنه "إذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل"، وقد دل على الحقيقة هنا ألفاظ الحديث من ذكر رغاء البعير وخوار البقرة وثغاء الشاة وحمحمة الفرس، وإنما يُلجأ إلى المعاني الأخرى عند تعذر الحمل على الحقيقة، أما إذا


(١) ينظر في كتاب أنموذجٌ جليل لزين الدين الرازي (ص: ٥٣)، وفتح الرحمن لزكريا الأنصاري (ص: ٩٩).

<<  <   >  >>