للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا يستقيم أيضًا قياس الآية هنا على الآية التي في سورة المائدة على القول بأن الآية هنا في اليهود والمنافقين، فلا يظهر أن سبب النزول مما يصح القياس فيه، خصوصًا مع اختلاف السياق هنا عن السياق هناك، فالسياق هنا في غزوة أُحد كما تقدم بيانه في المسألة السابقة.

وإذا لم يثبت سببُ نزولٍ لهذه الآية وليس في لفظها ما يُلزم التخصيص فإن الأولى حملها على العموم، وتُحمل الأقوال الأخرى على أنها من باب التمثيل كما ذكر السمين الحلبي.

ومما يدل على أن الأقوال المذكورة هي من قبيل التمثيل أنه قد جاءت الروايات عن المفسرين من التابعين في سياق كلامهم في الآية بالقول بأكثر من قول، مما يدل على أنه مرةً ينبه على هذا الصنف من الكافرين، ومرةً ينبه على الصنف الآخر، وأن ذلك كله من باب التمثيل.

وقد ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني بعض الأوجه التي تشير إلى أن الآية نزلت في قومٌ آمنوا ثم ارتدوا، لكن تلك الأوجه ليست صريحة ويمكن الإجابة عنها، وهي ثلاثة أوجه (١):

الوجه الأول: (أن المستمر على الكفر لا يُوصف بأنه يسارع في الكفر، وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الإيمان).

ويمكن الجواب عنه بأن هذا القول مبنيٌ على أن المراد من قوله {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}: يقعون في الكفر، لأن المسارعة تتعدى بـ (إلى) فلما جاءت التعدية بـ (في) ضُمِّن الفعل معنى الدخول في الشيء والوقوع فيه، وهذا المعنى لا يتعين؛ إذ يمكن حمل معنى المسارعة في الآية على أن الكافر واقع في الكفر لكنه يسارع فيه بالازدياد منه والعجلة في مواقعته (٢)، ومما يشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ} الآية [المائدة: ٦٢]، فليس المعنى أنهم لم يكونوا في الإثم، وكذلك قوله: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: ٩٠، والمؤمنون: ٦١]، فليس المعنى أنهم ليسوا في أعمال الخير.

الوجه الثاني: (أن إرادته تعالى ألا يجعل لهم حظًّا في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن، فاستوجب ذلك، ثم أُحبِط).

ويمكن الجواب عنه بأن المراد حرمانهم من الوصول إلى حظهم في الآخرة لا قطعهم عنه بعد


(١) نقلها عنه الرازي في تفسيره (٩/ ٤٣٦).
(٢) ينظر في التحرير والتنوير لابن عاشور (٤/ ١٧٢ - ١٧٣).

<<  <   >  >>