للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهو بهذا لا ينفي التأكيدَ مطلقًا ويتكلَّفُ التأويلات لأجل إثبات التأسيس ونفي التأكيد، بل إذا كان الموطن لا يحتمل إلا التأكيد أثبتَه ونفى الأقوالَ البعيدة في ادِّعاء التأسيس، ففي قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران: ١٤٣] أثبتَ أن جملة {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} حالٌ مؤكِّدة، ثم قال: "وقال أبو بكر الأنباري: يقال إن معنى {رَأَيْتُمُوهُ}: قابلتموه، {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} بعيونكم، ولهذه العلة ذَكَر النظرَ بعد الرؤية؛ حين اختلف معناهما، لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة، والثاني بمعنى رؤية العين. فعلى ما ذكره تكون الجملة في موضع الحال، لكنها حال مبيِّنَة لا مؤكِّدة، وهو حسنٌ لو لم نَقُل إن اللغة لا تساعد على كون الرؤية تكون بمعنى المقابلة والمواجهة" (١)، فهو يحسِّن أن تكون الحال للتأسيس والتبيين، وهو الأصل كما ذكر، لكنه لم يقبل ذلك هنا لما فيه من التكلُّف.

القاعدة الثانية: "حمل ألفاظ الوحي على التباين أرجح من حملها على الترادف" (٢).

هذه القاعدة تشبه سابقتها، فمن أثبت الترادف فإنه يشير إلى التأكيد غالبًا، والفرق بينهما أن السابقة جرى العملُ فيها بين الجُمل التي تكون في سياقٍ واحد، وإن لم يكن بينها تشابه في الألفاظ، وهذه القاعدة بين الألفاظ التي بينها تشابه، وإن كانت في سياقات متباعدة، والذي دل على هذا التفريق هو ما ذكره السمين الحلبي تبعًا لشيخه أبي حيان في استعمال هذه القاعدة بين آيتين متشابهتين في سياقين مختلفين: الأولى قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: ١٥١]، والثانية في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: ٣١] حيث ذَكَر معنًى لطيفًا في الفرق بينهما ثم قال: "وإفادةُ معنًى جديدٍ أولى من ادِّعاء كون الآيتين بمعنًى واحدٍ للتأكيد" (٣)، ففي هذا المثال لا يُتصوَّر أن الأمر يدور بين التأسيس والتأكيد، لكن يمكن أن يقال بالترادف وأن الآيتين بمعنًى واحد يستفاد منه


(١) ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: ١٠٦ – ١٥٦)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: ٣٤٩ - ٣٥١).
(٢) ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (٢/ ٤٨١ – ٤٩٤).
(٣) ينظر في الدر المصون (٥/ ٢١٩)، وفي البحر المحيط لأبي حيان (٤/ ٦٨٧).

<<  <   >  >>