للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفعل منصوب، ولو كان التوجيه الذي ذكره الباقولي في سبب عدول القراء عن الكسر معهودًا بينهم لكان مستفيضًا عندهم ولثبت له عدة شواهد، لكنه لم يذكر له شاهدًا إلا في قراءة شاذة رويت عن ابن عامر، وسيأتي الكلام عنها.

ومن هذا يتبين أن القول بالجزم في قوله {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وإن قلنا بصحة أدلته من الاستشهاد بقراءة الجزم والاستشهاد بطريقة القراء إلا أنه يَرِد عليه إشكالان:

الأول: أن التوجيهات المذكورة في فتح الميم (إما لأجل خفة الفتح، أو لأجل الإتباع) ضعيفةٌ في مقابل قوة القول بالنصب وشهرته بين أهل العلم، ففيه المذهبان المشهوران.

والثاني: أن التوجيهات المذكورة في فتح الميم لا تناسب المحل هنا، لأن الميم هنا في آخر الكلمة، وآخر الكلمة هنا هو علامة الإعراب، ففتح الميم يدل على النصب، ولو كانت التوجيهات سائغة في محل آخر لم تكن سائغة هنا لأن هذا يتعارض مع الإفصاح عن الكلام وبيان المعنى المراد، فاستعمال خفة الفتح أو الإتباع لا يناسب أن يكون في آخر الكلمة الذي هو محل الإعراب وبيان المعنى المراد.

وأيضًا، فإن الإعراب هو تغيير أواخر الكلِم، فلا يسوغ أن يلحقه تغييرٌ آخر بعده، لأنه إذا كان المراد الجزم هنا فإن الأصل في الميم أن تكون ساكنة، ثم إنها تحرَّكت بالكسر لأجل التقاء الساكنين بناء على الأصل في ذلك، ثم تحرَّكت بالفتح لأجل خفته أو لأجل الإتباع، فحصل منه توالي التغيير على محل الإعراب (١).

وأما تغيير الحركة بالفتح لأجل التقاء الساكنين فهو خلاف الأصل، ولعله لأجل هذا اعترض محيي الدين درويش على من قال بالجزم وغلَّظ القولَ في ذلك (٢).

وأما ما استشهد به الباقولي من القراءة الشاذة التي رويت عن ابن عامر (ثم يجعَلَه حطامًا)، فمع أنها شاذة، فإن أهل العلم قد ضعفوها (٣)، بل إن السمين الحلبي حملها على النصب كما هو ظاهر اللفظ، وذكر أن سبب ضعفها أنه لم يتقدم في الآية ناصب (٤)، وقد ردَّ أبو البركات


(١) ينظر في الكشف لمكي بن أبي طالب (١/ ٢٤٢) فإنه ذكر الفرق بين حركة الإعراب وحركة البناء بأن حركة الإعراب تدل على معنى بخلاف حركة البناء غالبًا، وأن حركة الإعراب هي تغيير فلا يجوز أن يلحقها تغيير آخر.
(٢) ينظر في إعراب القرآن وبيانه (٢/ ٦١).
(٣) ينظر في الكامل للهُذلي (ص: ٦٣٠)، والبيان في غريب إعراب القرآن لأبي البركات الأنباري (٢/ ٣٢٣).
(٤) الدر المصون (٩/ ٤٢١).

<<  <   >  >>